للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فى الأصول أن العبرة بدلالة العموم. لا يقيد بخصوص سبب النزول. وقال فى النفقات العامة: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ [البقرة: ٣]، و (من) للتبعيض، فكل من الغنى ذى السعة، والفقير ذى العسرة، مأمور بأن ينفق مما آتاه الله لا كل ما آتاه الله، وهذا أعظم الأصول الاقتصاد، فمن أنفق بعض ما يكتسب قلما يفتقر.

وتقدم فى وصايا سورة الإسراء الحكيمة ذكر آيات النهى عن التبذير والمبالغة فى بسط اليد والمبالغة فى قبضها، وما لكل منهما من سوء العاقبة، قال الله تعالى: وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً [الإسراء: ٢٦].

ولولا اقتران تلك الوصايا بحكمها وعللها ومنافعها لما سمّيت حكمة، ألا ترى أنه قال عقب النهى عن التبذير: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ [الإسراء: ٢٧]، لأنهم يفسدون نظام المعيشة بإسرافهم، ويكفرون النعمة بعدم حفظها ووضعها فى مواضعها بالاعتدال، ولذلك قال عقبه: وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً [الإسراء: ٢٧]، ثم قال: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً [الإسراء: ٢٩] فعلل الإسراف فى الإنفاق بأن عاقبة فاعله أن يكون ملوما من الناس ومحسورا فى نفسه، والمحسور من حسر عنه ستره فانكشف منه المغطى، ويطلق على من انحسرت قوته وانكشفت عن عجزه، والمحسور المغموم أيضا، وكل هذه المعانى تصح فى وصف المسرف فى النفقة، يوقعه إسرافه فى العدم والفقر إلخ، وحسير البصر كليله وقصيره. ويكنى به عمن لا يفكر فى عواقب الأمور.

ولو أنّ المسلمين تدبروا هذه الآيات الحكيمة فى الاقتصاد واهتدوا بها لاستغنوا بإرشادها عن جميع الكتب والوصايا فى حفظ ثرواتهم، ولندر أن يوجد فيهم فقير. ولو كان هذا القرآن نابعا من غريزة محمد صلّى الله عليه وسلّم ورأيه وشعوره لما وجدتها فيه، فقد كان حب البذل والإحسان هو الغالب على طبعه، وصاحب هذه الخليقة قلما يفكر فى الاقتصاد. وإنما هى وصايا رب العباد.

<<  <   >  >>