للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

آن لى أن أبين لك ضلالك القديم، إنك خادمى لا عمل لك غير خدمتى، وإنك أشدّ الناس إعجابا بى وإجلالا وتعظيما لى؟ حتى إنك تفضلنى على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وتنكر علىّ أن أؤمن به وأتبعه، وأنك على هذا تخالف أمرى فى أهون خدمة أطلبها منك فى داخل الدار معتذرا بشدة البرد، وإن هذا المؤذن الفارسى يخرج من بيته قبل الفجر ويصعد هذه المنارة وهى أشد مكان فى البلد بردا، حتى إذا لاح له الفجر أشاد فى أذنه بذكر محمد العربى بعد مرور أربعة قرون ونيف على بعثته، إيمانا وإذعانا وتعبدا واحتسابا. فتأمل هذا وتدبره فى نفسك يظهر لك الفرق بين سلطان النبوة على الناس وسلطان العلم والفلسفة.

فمن أعظم مزايا هداية الوحى الدينية على العلمية الكسبية أن جميع طبقات المؤمنين بها يذعنون لها بالوازع النفسى التعبدى، فبذلك تكون عامة ثابتة لا مجال للخلاف والتفرق فيها ما دام الفهم لها صحيحا والإيمان بها راسخا، ولذلك نرى الشعوب التى ساء فهمها للدين، وتزلزل إيمانها به أو زال، لا ينفعها من دونه علوم العلماء، ولا حكمة الحكماء، وقد ارتقت العلوم والحكمة فى هذا العصر، وعم انتشارهما بما لم يعرف مثله فى عصر آخر، وهم لا يذعنون فى أنفسهم لإرادة ملك أو أمير، ولا لرأى عالم نحرير، ولا فيلسوف شهير، ولا مخترع خبير، بل صاروا إلى فوضى فى الأخلاق والآداب والاجتماع، واستباحة الأموال والأعراض وكذا الدماء لم يعهد لها فى البشر نظير. صارت بها الأمم والدول عرضة لفتنة فى الأرض وفساد كبير.

أكثر البشر المؤمنون بوجود الله وعلمه وحكمته، والمثقفين بالتعليم العصرى يؤمنون بوحدانيته، ولم يبق للشرك به تعالى بقية إلا فى جهال المتبعين لتقاليد الأديان المنسوبة إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وما هى من أديانهم فى شىء. بل هى هادمة لأساسها الأعظم وهو التوحيد المطلق، فكان فشو الشرك بعبادة الأنبياء والقديسين وما ترتب عليه واقترن به من الخرافات وفساد الأخلاق من أكبر الشبهات على صحة هذه الأديان والمنفرات عن اتباعها وصار أكثر البشر إما مؤمنين بالأنبياء دائنين بالخرافات، وإمّا كافرين بهم منكرين أن الدين وحى من الله تعالى، وتعين إرجاع الفريقين إلى هداية الدين الصحيح وما هو إلا دين الإسلام.

إن الدين الذى ينتمى إليه أكثر شعوب الحضارة فى هذا العصر هو النصرانية، وإنما سبب بقائه فيهم أن دولهم قد جعلته من نظام حياتهم الاجتماعية، ولكنه لم يبق له سلطان روحى إلا فى قلوب النساء والعوام الخرافيين، وقد جاءتنا الأنباء قبل طبع هذا الفصل بأن

<<  <   >  >>