للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

(ولقد رأيته ينزل عليه الوحى فى اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا «١»).

حدّثنا يحيى بن بكير، قال حدّثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت: أول ما بدئ به رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الوحى الرؤيا الصالحة فى النوم «٢»، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه «٣» - وهو التعبد- الليالى ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق «٤» وهو فى غار حراء فجاءه الملك فقال: «أقرأ، قال: ما أنا بقارئ «٥»، قال: فأخذنى فغطّنى «٦» حتى بلغ منّى


(١) كان من هذه الشدة عليه ما قاله العلامة ابن القيم فى زاد المعاد: حتى أن راحلته لتبرك به إلى الأرض إذا كان راكبها، ولقد جاءه مرة كذلك وفخذه على فخذ زيد بن ثابت، فثقلت عليه حتى كادت ترضها أ. هـ.
(٢) أكثر الرؤى أضغاث أحلام لها أسباب تثيرها فى خيال النائم، والرؤيا الصالحة نوع من انكشاف الحقائق للنفس المستعدة لإدراكها بما يكون وقت النوم من صفائها بعد اشتغالها بمدركات الحواس وما تثيرها من الخواطر والأفكار، ورؤيا الأنبياء قبل وحى التشريع تمهيد وتأنيس للنفس تقوى استعدادها لتلقى الكلام الإلهى.
(٣) أصل التحنث؛ اتقاء الحنث أى الذنب، أو مقلوب التحنف وهو اتباع الحنيفية ملة إبراهيم، وهو رواية ابن هشام. وقوله: وهو التعبد، جملة تفسيرية لراوى الحديث وهو ابن شهاب الزهرى فهو مدرج فى الحديث، والليالى ظرف متعلق بيتحنث.
(٤) وفى رواية «فجاءه الحق»؛ أى بغته ولم يكن ينتظره، والمراد به الوحى الصريح الذى هو كلام الله تعالى، وهذه الرواية الثابتة فى الصحيحين صريحة فى أن هذا كان فى اليقظة، وفى سيرة ابن
هشام عن ابن إسحاق أن جبريل جاءه فى المنام، وهى من مراسيل عبيد بن عمير وهو ثقة وله صحبة، ولكن رواية الصحيحين المسندة المرفوعة هى المعتمدة وجمع بعضهم بين الروايتين بأنه رآه أولا فى المنام فاستقرأه ثم رآه فى اليقظة، ولو وقع هذا فى المنام لزال خوفه ورعبه صلّى الله عليه وسلم بعد اليقظة ولم يذهب إلى خديجة يرجف فؤاده.
(٥) الظاهر: أن الأمر بالقراءة أمر تكوين لا تكليف- أى كن قارئا- ولذلك قال له فى الثالثة: (اقرأ باسم ربك) أى كن قارئا باسمه ومن قبله وبأقداره إياك على القراءة، لا بحولك وقوتك، فهو يعلم أنك أمى لا يتعلق كسبك واستطاعتك بالقراءة، أما وقد شاء ربك- الذى خلق- خلق الإنسان من علق، وهو الحيوان المنوى أو أول ما تتحول إليه نطفة الزوجية بعد العلوق، فجعله بشرا سويا ويبصر ويعقل- أن يجعلك قارئا لما يوحيه إليك لتقرأه على الناس فأنت تكون قارئا.
(٦) فسروا الغط بالضم الشديد الضاغط فقالوا: أى ضمنى وعصرنى، وفى رواية الطبرى للحديث: «وأصل معناهما الغمس فى الماء وضيق النفس، وفسره بعضهم بالخنق وهو مبالغة لا تليق هنا. وحكمة هذا الغط تقوية روحانية النبى صلّى الله عليه وسلم حتى يقوى على الاتصال بالملك والفهم منه.

<<  <   >  >>