نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ [الآية: ٤٩]، ونحوه فى أواخر سورة يوسف بعد قصته: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ [الآية: ١٠٢].
ومن الشواهد التى لم يكن يعرفها أحد من أهل الكتاب قوله تعالى بعد قصة زكريا وولادة مريم وكفالته لها، فيتوهم أنه مأخوذ عنهم: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ [آل عمران: ٤٤].
الأقلام: جمع قلم تطلق على الأزلام والأقداح التى كانوا يلقونها لضرب القرعة لإزالة الخلاف فيما يتنازعون فيه، وعلى أقلام الكتابة، وتكون القرعة بأوراق تخلط بها كما هو المعهود فى عصرنا، والمعنى أنهم اختصموا وتنازعوا فى كفالة مريم وتربيتها عناية بأمرها فأصابت القرعة زكريا عليه وعليها السلام، كما قال تعالى فى أول قصتها.
(الوجه الخامس): أنه لم يرد فى الأخبار الصحيحة والمرفوعة «١» أن محمدا صلّى الله عليه وسلم كان يرجو أن يكون هو النبى المنتظر الذى يتحدث عنه بعض علماء اليهود والنصارى قبل بعثته، ولو روى عنه شىء من ذلك لدوّنه المحدثون لأنهم ما تركوا شيئا بلغهم عنه إلا ودوّنوه، كما رووا مثله عن أمية بن أبى الصلت، بل صرح القرآن المجيد بأنه لم يكن يرجو هذا ولا يؤمله، قال تعالى: وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [القصص: ٨٦]، أى لكن ألقى إليك رحمة من ربك بك وبالناس كلهم لا كسب لك فيه بعلم ولا عمل، ولا رجاء، ولا أمل، فهذا تأكيد وتكميل الشاهد الأول من الوجه الرابع.
(الوجه السادس): أن حديث بدء الوحى الذى أثبته الشيخان فى الصحيحين، وغيرهما من المحدثين صريح فى أنه صلّى الله عليه وسلم لما رأى الملك أول مرة ولم تجد زوجته خديجة بنت خويلد العاقلة المفكرة وسيلة يطمئن بها على نفسه، وتطمئن هى عليه إلا استفتاء أعلم العرب بهذا الشأن وهو ابن عمها ورقة بن نوفل الذى كان تنصر، وقرأ كتب اليهود والنصارى.
(الوجه السابع): لو كانت النبوة أمرا كان يرجوه محمد ويتوقعه، وكان قد تم استعداده له باختلائه وتعبده فى الغار، وما صوروا به حاله فيه من الفكر المضطرب، والوجدان الملتهب، والقلب المتقلب، حتى إذا كمل استعداده. تجلّى له رجاؤه واعتقاده، بما تم به مراده، لظهر عقب ذلك كل ما كانت تنطوى عليه نفسه الوثّابة، وفكرته الوقّادة، فى سورة
(١) الحديث المرفوع فى اصطلاح المحدثين ما صرح الصحابى بأنه من قول النبى صلّى الله عليه وسلم.