للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كَتَبَ الْفَنَاءَ عَلَيْهَا، وَرَكَّبَ مَا رَكَّبَ مِنْ جَوَارِحِ الْخَلْقِ لِلْفَنَاءِ، فَلَا يَحْتَمِلُ نُورَ الْبَقَاءِ فَتُحْرَقَ١ بِهِ أَوْ تُدَكَّ، كَمَا دكَّ الْجَبَلُ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ رُكِّبَتِ الْأَبْصَارُ وَالْجَوَارِحُ لِلْبَقَاءِ، فَاحْتَمَلَتِ النّظر إِلَى وَجهه، وَإِلَى


= وَعلي بن أبي طَالب، وأبيّ بن كَعْب، وَأَبُو هُرَيْرَة، وَعبد الله بن عَبَّاس، وَعبد الله ابْن عمر، وَجَابِر بن عبد الله فِي حَدِيث، وَسمرَة بن جُنْدُب، وَقبيصَة الْهِلَالِي، وَعبد الرَّحْمَن بن سَمُرَة، فَلم يذكر أحد مِنْهُم هَذِه اللَّفْظَة الَّتِي ذكرت فِي حَدِيث النُّعْمَان بن بشير، فَمن هَهُنَا نَخَاف أَن تكون أدرجت فِي الحَدِيث إدراجًا، وَلَيْسَت من لَفْظِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم على أنَّ هَهُنَا مسلكًا بعيد المأخذ، لطيف المنزع، يتقبله الْعقل السَّلِيم والفطرة السليمة؛ وَهُوَ أَن كسوف الشَّمْس وَالْقَمَر وَجب لَهما من الْخُشُوع والخضوع بانمحاء نورهما وانقطاعه عَن هَذَا الْعَالم مَا يكون فِيهِ سلطانهما وبهاؤهما، وَذَلِكَ يُوجب لَا محَالة لَهما من الْخُشُوع والخضوع لرب الْعَالمين وعظمته وجلاله، مَا يكون سَببا لتجلي الرب تبَارك وَتَعَالَى لَهما، وَلَا يستنكرون أَن يكون تجلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَهما فِي وَقت معِين كَمَا يدنون أهل الْموقف عشِّية عَرَفَة، وكما ينزل كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا عِنْد مُضِيّ نصف اللَّيْل، فَيحدث لَهما ذَلِك التجلي خشوعًا آخر لَيْسَ هُوَ الْكُسُوف، وَلم يقل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّ الله إِذا تجلى لَهما انكسفا، وَلَكِن اللَّفْظَة: "فَإِذا تجلى الله لِشَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ خَشَعَ لَهُ".
وَلَفظ الإِمَام أَحْمد فِي الحَدِيث: "إِذا بدا الله لِشَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ خَشَعَ لَهُ" فَهُنَا خشوعان: خشوع أوجبه كسوفهما بذهاب ضوهما وانمحائه، فتجلى الله سُبْحَانَهُ لَهما، فَحدث عِنْد تجلية تَعَالَى خشوع آخر، سَبَب التجلي كَمَا حدث للجبل، إِذْ تجلى تبَارك وَتَعَالَى لَهُ صَار دكًا وساخ فِي الأَرْض، وَهَذَا غَايَة الْخُشُوع، لَكِن الرَّب تبَارك وَتَعَالَى ثبتهما لتجلية عناية بخلقه لانتظام مَصَالِحه بهما، وَلَو شَاءَ سُبْحَانَهُ لثبت الْجَبَل لتجليه كَمَا ثبتهما، وَلَكِن أرى كليمه مُوسَى أَن الْجَبَل الْعَظِيم لم يطق الثَّبَات لَهُ، فَكيف تطِيق أَنْت الثَّبَات للرؤية الَّتِي سَأَلتهَا؟ " انْظُر: مِفْتَاح دَار السَّعَادَة لِابْنِ الْقيم ٢١٣/٢-٢١٤.
١ فِي ط، ش "فتحترق بِهِ".

<<  <  ج: ص:  >  >>