للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ويقرر الشاطبي أنه لا يصح أن يراد بالبدعة المكروه تنزيهاً من حيث أن مرتكب المكروه إنما قصده نيل غرضه وشهوته العاجلة متكلاً على العفو اللازم فيه ورفع الحرج الثابت في الشريعة فهو إلى الطمع في رحمة الله أقرب وأيضاً فليس عقده الإيماني بمتزحزح لأنه يعتقد المكروه مكروهاً كما يعتقد الحرام حراماً وإن ارتكبه فهو يخاف الله ويرجوه والخوف والرجاء شعبتان من شعب الإيمان.

فكذلك مرتكب المكروه يرى أن الترك أولى في حقه من الفعل وأن نفسه الأمارة زينت له الدخول فيه ويود لو لم يفعل فلا يزال إذا تذكر منكسر القلب طامعاً في الإقلاع سواء عليه أخذ في أسباب الإقلاع أم لا.

ومرتكب أدنى البدع يكاد يكون على ضد هذه الأحوال فإنه يَعُدُ ما دخل فيه حسناً بل يراه أولى مما حدَّ له الشارع فأين مع هذا خوفه أو رجاؤه؟ وهو يزعم أن طريقه أهدى سبيلاً ونحلته أولى بالاتباع؟ (١)

ويدل على أن البدعة لا تكون مكروهة تنزيهاً قوله - صلى الله عليه وسلم -: (من رغب عن سنتي فليس مني) وقد جاء هذا القول النبوي رداً على من قال من الصحابة: (أما أنا فأقوم الليل ولا أنام) وعلى من قال: (أما أنا فلا أتزوج النساء) وعلى من قال: (أما أنا أصوم الدهر ولا أفطر) وهذا قد ورد في حديث النفر الثلاثة الذين سألوا عن عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم -

الذي رواه البخاري ومسلم (٢). فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذه العبارة وهي أشد شيء في الإنكار ولم يكن ما التزم به هؤلاء الثلاثة من الصحابة إلا فعل مندوب أو ترك مندوب إلى فعل مندوب آخر.

ويدل على ذلك أيضاً ما جاء في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام: (رأى رجلاً قائماً في الشمس فقال: ما بال هذا؟ قالوا: نذر ألا يستظل ولا يتكلم ولا يجلس ويصوم،


(١) الاعتصام ٢/ ٥٦.
(٢) صحيح البخاري مع الفتح ١١/ ٥، صحيح مسلم مع شرح النووي ٣/ ٥٢٥.

<<  <   >  >>