وأما الفلاسفة فهم وإن أثبتوا دوام الفاعلية للرب لا عن اختيار ومشيئة، وأثبتوا وجود الله، فهم في الحقيقة معطلة لا يؤمنون بصفات الله عزّ وجل ولا بأسمائه، وقالوا: إن المخلوقات لازمة لله أزلاً وأبداً.
الوجه الثاني: أن لازم مذهب الفلاسفة في قدم النوع، وقدم العين والفرد، هو التعطيل عن الفعل، إذ على قولهم: لم يزل الفلك مقارناً له أزلاً وأبداً فيمتنع أن يكون شيء مفعولاً له؛ لأن الفاعل لا بد أن يتقدم على فعله.
فهم عطلوا الرب عن الفاعلية التي هي أظهر صفات الرب - تعالى - ولهذا وقع الإخبار بها في أول ما نزل على الرسول صلّى الله عليه وسلّم:{قْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}[العلق: ١- ٥] فالخلق يتضمن فعل الله، وخلق الإنسان يعني خلق الله الأشياء شيئاً بعد شيء.
والتعليم يتضمن قول الله وتعليم الإنسان يعني دوام هذه الصفة وتكرارها شيئاً بعد شيء، كما قال تعالى:{وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ}[النساء: ١١٣] ، وقال:{فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ}[آل عمران: ٦١] ، وقال:{وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً}[طه: ١١٤] ، وقال:{الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ * الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ}[الرحمن: ١ - ٥] .
وترتب على هذا قول الفلاسفة بعدم علم الله بالجزئيات، وعلم الله إنما هو بالكليات، والكليات أمر ذهني لا وجود له في الخارج، وإذا لم يعلم شيئاً من الجزئيات لم يعلم شيئاً من الموجودات، فامتنع أن يعلّم غيره شيئاً من العلم بالموجودات المعينة؛ لأن من لا يعلم شيئاً يمتنع أن يعلم غيره (١) .
ويرى ابن تيمية أن قول الفلاسفة أردأ الأقوال في المسألة، ويفضل قول
(١) انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ١٨/٢٢٩ - ٢٣٠.