وبعد ما رأيت ما رأيت (ملحمة الدعوة) لـ (إبراهيم عزت)
عيناه تسبحان في الشرود من يوم أن أريق أول قطرة من دماء إخوته الشهداء .. فينادي واحة الأمان أن تقفر .. وسنابل العطاء أن تتكسَّر وتسجد تيجانها الشَمَّاء .. وينادي خضرة الزيتون رمز السلام .. أن ترتدي السَّواد حداداً علي السلام .. ومدامع السحاب أن تودع كلَّ شبر من السماء دمعة .. وأن تكثر البكاء علي الحرمات التي ينتهكها الظُّلام .. أعداء السلام .. أعداء الحرية .. بل أعداء الإنسانية .. ولا ينسي الشاعر أن يذكِّر الريحان .. بأنَّه يوماً قد ارتوي بدماءٍ مؤمنةٍ بريئةٍ في أرض حرام .. فما أفظع أن تهان الفتاة المؤمنة المجاهدة لأنها تقول ربِّي الله .. ويلجأ الشاعر إلي ربِّه سبحانه يصف له سوء الحال .. فالطواغيت ينهبون خيرات شعوبهم .. ويزجُّونهم في محافل التعذيب الهمجيِّ .. فيُقهر من يُقهر .. ويثبت من أيَّده الله بالثبات .. وبعد ذلك يسائل الشاعر نفسه. هل يتابع الطريق؟ ويتردد في الإجابة .. إلاَّ أنَه لا ينسي أن يهدي إخوة الطريق دعاة الحق .. دموعاً سخيَّة .. ويتذكَّر العهد الذي عاهُدوا الله عليه .. ويهُّم بالإجابة فتنتابه رعشةٌ من هول ما رأي في الطَّريق .. ويتسلَّل الخورُ إلي نفسه .. ينتظر القول الأخير .. فيأتي الجواب بقوة .. سأعود .. سأعود من حيث بدأت .. سأعود إلي مسجدي .. وانطلق منه داعياً إلي الله .. فلقد عرفت بأن الطَّريق شاقة وصعبة .. ولكن .. ولكنَّ إشراقة مضيئة تجيء في الختام تقول: (جَاءَ الْحَقُ وَزَهَقَ الْبَاطِل إن الباطل كَانَ زَهَوقا)
وبعد ..
وبعدما رأيت ما رأيت ..
وبعدما عرفت ما عرفت ..
الموت حينما دنت مخالبه
والليل حينما اعتدى على الصباح ضارياً يُغالبه
الموت كان أمنية ..
والموت كان للجراح أغنية
واختار من صفوفنا
أحبَّ من رأت عيوننا
واختار من صفوفنا الكبار
واختار من صفوفنا الرجال صانعي النهار
واختار للذرى أحبةً كرام
تحيةً لهم سلام
عيناي تسبحان في الشرود من يومها
من يوم أن تحرَّك الفناء فوق كلِّ أخضر
يا واحة الأمانِ أقفري
قد استبيحت الحُرَم
وسيقت النساء والأطفال للحُمم
ليُطعَموا لوحشة الظُلَم
ليطفئوا ابتسامة الصغير
ليهتكوا قداسة الحرم
وضجّت الأصوات تستغيث ربَّها
في الليلة التي بكى بها الحصنُ من شهقة الدماء
وحُمِلتْ رياحها بألف آه
الكون كلُّه يقول: آه
ويا لذلَّةٍ تراد بالجباه
تكسَّري سنابلَ العطاء واسجدي
ومرِّغي تيجانك الشمَّاءَ في الثَّرى
يا خضرة الزيتون
فلترتدي السواد فوق كلَّ عود أثمرا
ويا مدامع السحاب طوفي على الديَّار
وأودعي بكل شِبرٍ دمعةً من السماء
وأكثري على المحارم البكاء
وأودعي بكل شِبرٍ دمعةً من السماء
وأكثري على المحارم البكاء .. أكثري البكاء ..
ويا شذا الرَّيحان قبلها تفوح بالعبير
يا شذا الريحان أودُّ أن أذكِّرك
بأنهم لحظة من الظما تفقّدوا ولم يكن هناك ماء
وأنَّك ارتويت يومها بأقدس الدماء
الحرَّة الطَّهور ..
بالحرمة الطَّهور ..
تعذَّب الذبول في ملامح الزهور ..
الحرة التي تداس يا لهولها ..
عويلها .. يحرِّك الصخور في جبالها
فيصرُخ الملك ..
يهتزُّ في انتظار ومضةٍ لمن ملك
سألت خالقي وكلُّنا سأل:
لمن تركتنا يا رب؟
سألت خالقي إلى متى؟
ستطعم الذئاب ما وهبتنا؟
الهول يا لقسوته ..
محافلٌ تَضُّم ألف سوط ..
والموت قادمٌ .. يدوس فوق موت
وبعد ..
وبعدما رأيت ما رأيت ..
عرفت كيف يقهر الِّرجال بالضَّنَى
وفي مواقع من الأسى بكيت
تحرّك الشيطان حاملاً سلاحه
ومضمراً لكل بسمة للنور في صدورنا نواحه
وأطلق الدخان غاضباً ..
واستجمع القوى ..
وبكل حقده الذي يضمُّه هوى
رأيت ..
رأيت كبوة الجواد مضنية
رأيت دمعة الجسور مُبكية
وبعد .. وبعد ما رأيت ما رأيت .. هل تعود للطَّريق؟ هل تعود؟!!
وقبل أن أجيب
تحرّكت مدامعي هديةً لمن مضى
وأرهفت مسامعي
لأستعيد من مواطن الغيوب
وصيَّة سمعتها .. في لحظةٍ من الرَّضي
واهتزَّ قلبي الذي قد هدَّه العذاب
أحسست رعشةً بجسمي الذي يخاف غضبة الذئاب
وجاء ضعفي الكئيب جاء
عرفته في كل لحظةٍ من الضَّنى قد عشتها
أتى يقدِّم الرجاء
تعلقت عيناه بالجواب
يا ترى وبعد .. هل تعود للطريق؟ هل تعود؟
عائد أنا من حيث أتيت
عائد أنا لمسجدي
عائدُ إلى الصَّلاةِ والركوع والسجود
عائدُ إلى الطريق خلف أحمد الرَّسول
أطلق الخطى حزينةً في إثره
عرفت قصَّةَ الطريق كلها
وعائدٌ أنا برغمها
كالفجر .. كالصباح .. مغدقٌ وباسِمُ
والخطو كالرياح .. عاصفٌ وعارمُ
عرفت قصة الطريق كلَّها
الموت أول المطاف
لكنّ خضرة الطَّريق لا يصيبها الجفاف
قادمٌ .. وقادمٌ .. وقادمُ
إشراقة مضيئة تجيء في الختام
تقدَّموا .. تقدَّموا .. تقدَّموا
فبعد لحظة من المسير
ينتهي الزحام
ينتهي الزحام
لا بديل للخلود
لا بديل للجنان
لا بديل
لا بديل غير ذلّةِ الرُّغام
لا بديل غير خدعة السَّراب
لا بديل غير وهدةِ الظَّلام
لا بديل للإقدام ... غير سحقةِ الأَقدام