للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والأفضل في رمي الجمار أيام التشريق أن تُرْمَى قبل الغروب، وكذلك جمرة العقبة من رماها قبل غروب يوم النحر فقد رماها في وقتٍ لها، وإن كان الأفضل أن تُرمى جمرة العقبة ضحى لغير الضعفة.

أما الرمي بعد غروب الشمس ليلاً فقد أجازه بعض أهل العلم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقَّت ابتداء الرمي بعد الزوال في أيام التشريق ولم يوقِّت انتهاءه، وكذلك جمرة العقبة بعد طلوع الشمس يوم النحر للأقوياء، فالأحوط أن يرمي قبل الغروب حتى يخرج من الخلاف، ولكن لو اضطر إلى ذلك ودعت الحاجة إليه فلا بأس أن يرمي في الليل عن اليوم الذي غابت شمسه إلى آخر الليل قبل فجر اليوم الذي بعده (١) (٢)،


(١) انظر: مجموع فتاوى العلامة ابن باز في الحج والعمرة، ٥/ ١٦٥ و١٦٧، وأضواء البيان، ٥/ ٢٨٣، و٥/ ٢٩٩، وانظر: قرار هيئة كبار العلماء في جواز الرمي ليلاً في كتاب توضيح الأحكام من بلوغ المرام، للعلامة عبد الرحمن البسام، ٣/ ٣٧٣، وانظر: آثاراً وأحاديث في جواز الرمي ليلاً في جامع الأصول لابن الأثير، ٣/ ٢٧٨ - ٢٨٢، والمجموع للإمام النووي، ٨/ ٢٤٠، واللقاء الشهري مع العلامة ابن عثيمين، ١٠/ ٧٧.
(٢) اتفق الفقهاء رحمهم الله تعالى على أن الرمي في النهار أفضل من بعد الزوال إلى غروب الشمس، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رمى في النهار ولم يرم بالليل، إلا أنه - صلى الله عليه وسلم - ذُكر عنه أنه رخَّص للرعاة بالرمي في الليل، فاختلف العلماء: فمنهم من قال بجواز الرمي بالليل، وقد نقل عن الحنفية، وابن حزم، وبه قال محمد بن المنذر، وروي عن عروة بن الزبير، والنخعي والحسن.
وقال المالكية يجوز قضاءً في القول المشهور عنهم، والقول الثاني توقف.
وعند الشافعية وجهان أصحهما الجواز ..
وقال الحنابلة وإسحاق، وأحد الوجهين عند الشافية لا يجوز الرمي في الليل، فإن غربت الشمس اليوم وهو لم يرم أخَّر الرمي حتى تزول الشمس، من الغد فيرمي للفائت أولاً ثم يرمي لهذا اليوم بالترتيب ((رمي الجمرات وما يتعلق بها من أحكام، ص ١٠٠)) وقد ذكرت أدلة من قال بالجواز في متن هذا البحث.
قال العلامة الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان ٥/ ٢٩٩: ((الفرع الثالث: في آخر وقت الرمي أيام التشريق: قد علمت أن أول وقت رميها بعد الزوال، ولا خلاف بين العلماء: أن بقية اليوم وقت للرمي إلى الغروب، واختلفوا فيما بعد الغروب: فمنهم من يقول: إن غربت الشمس ولم يرم رمى بالليل، وبعضهم يقول: الليل قضاء، وبعضهم يقول أداء، وقد قدمنا أقوالهم وحججهم في الكلام على رمي جمرة العقبة. ومنهم من يقول لا يرمي بالليل، بل يؤخِّر الرمي حتى تزول الشمس من الغد، كما قدمناه، مع إجماعهم على فوات وقت الرمي بغروب اليوم الثالث عشر من ذي الحجة الذي هو رابع يوم النحر.
واعلم: أن هذا الحكم له حالتان:
الأولى: حكم الرمي في الليلة التي تلي اليوم الذي فاته فيه الرمي من أيام التشريق.
والثانية: الرمي في يوم آخر من أيام التشريق.
أما الليل: فقد قدمنا: أن الشافعية، والمالكية، والحنفية كلهم يقولون: يرمي ليلاً، والمالكية بعضهم يقولون الرمي ليلاً قضاءً وهو المشهور عندهم، وبعضهم يتوقف في كونه قضاءً أو أداءً، ...
والحنابلة قدمنا أنهم يقولون: لا يرمي ليلاً، بل يرمي من الغد بعد الزوال، وأما رمي يوم من أيام التشريق في يوم آخر منها فلا خلاف فيه بين من يعتد به من أهل العلم، إلا أنهم اختلفوا في أيام التشريق الثلاثة، هل هي كيوم واحد، فالرمي جميعاً أداء، لأنها وقت للرمي كيوم واحد، أو كل يوم منها مستقل، فإن فات هو وليلته التي بعده فات وقت رميه، فيكون قضاء في اليوم الذي بعده.
فعلى القول الأول: لو رمى عن اليوم الأول في الثاني، أو عن الثاني في الثالث، أو عن الأول والثاني في الثالث، فلا شيء عليه، لأنه رمى في وقت الرمي.
وعلى الثاني يلزمه دم عن كل يوم فاته رمى فيه إلى الغد عند من يقول بتعدد الدماء: كالشافعية، أو دم واحد عن اليومين عند من يقول بعدم التعدد)) [أضواء البيان، ٥/ ٢٩٩ - ٣٠٠].
قال الشنقيطي رحمه الله: ((والتحقيق في هذه المسألة: أن أيام التشريق كاليوم الواحد بالنسبة إلى الرمي فمن رمى عن يوم منها في يوم آخر منها أجزأه [أي في اليوم الذي يليه]، ولا شيء عليه، كما هو مذهب أحمد، ومشهور مذهب الشافعي، ومن وافقهما)). [أضواء البيان، ٥/ ٣٠٠].
والدليل على ذلك، حديث عاصم بن عدي العجلاني - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((رخَّص لرعاء الإبل في البيتوتة يرمون يوم النحر، ثم يرمون الغد ومن بعد الغد بيومين، ويرمون يوم النفر))، وفي لفظ ((رخَّص للرعاء أن يرموا يوماً ويدعوا يوماً)) هذان اللفظان لأبي داود، (برقم ١٩٧٤، ١٩٧٥) ولفظ النسائي: ((رخص للرعاة أن يرموا يوماً ويدعوا يوماً)) وفي لفظ: ((رخص للرعاة في البيتوتة يرمون يوم النحر، واليومين اللذين بعده يجمعونهما في أحدها)) (برقم ٣٠٦٨، ورقم ٣٠٦٩)، ولفظ الترمذي: ((أرخص للرعاء أن يرموا يوماً ويدعوا يوماً))، وفي لفظ: ((رخَّص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرعاء الإبل في البيتوتة: أن يرمو يوم النحر، ثم يجمعوا رمي يومين بعد يوم النحر، فيرمونه في أحدهما، قال مالك: ظننت أنه قال: في الأول منهما ثم يرمون يوم النفر)) (برقم ٩٥٤، ٩٥٥) ولفظ ابن ماجه: ((رخص للرعاء أن يرموا يوماً ويدعوا يوماً)).
وفي لفظ: ((رخَّص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرعاء الإبل في البيتوتة أن يرموا يوم النحر، ثم يجمعون رمي يومين بعد النحر فيرمونه في أحدهما .. قال مالك: ظننت أنه قال: في الأول منهما، ثم يرمون يوم النفر)) (برقم ٣٠٣٦،ورقم ٣٠٣٧)،وهذه ألفاظ الحديث في الكتب الستة، وأخرجه أحمد برقم ٢٣٧٧٤، ورقم ٢٣٧٧٥، ورقم ٢٣٧٧٦، ٣٩/ ١٩١ - ١٩٤، بألفاظ نحو ما في الكتب الستة، وفسره الإمام مالك في الموطأ ١/ ٤٠٩، بأن معنى الحديث: أنهم يرمون يوم النحر، ثم لا يرمون اليوم الذي بعده، وهو اليوم الحادي عشر، ثم يرمون اليوم الذي بعده، وهو اليوم الثاني عشر، فيجمعون الرمي اليوم الحادي عشر مع الثاني عشر، وهو يوم النفر الأول، فإن بدا لهم النفر فقد فرغوا، وإن أقاموا إلى الغد رموا مع الناس يوم النفر الثاني، ثم نفروا مع الناس.
وهذا نحو كلام الإمام مالك رحمه الله قال العلامة الشنقيطي، ٥/ ٣٠١: ((وهذا المعنى الذي فسر به الحديث هو صريح معناه في رواية من روى: أن يرموا يوماً ويدعوا يوماً)) وحديث عاصم قال فيه الترمذي: ((هذا حديث حسن صحيح))، وصححه الألباني في صحيح السنن في المواضع المذكورة آنفاً. وقال محققو المسند، ٣٩/ ١٩١: ((إسناده صحيح)).
وهذا يدل على أن من فاته الرمي في اليوم الأول رمى في اليوم الذي بعده بعد الزوال ولا شيء عليه، ولكن يرمي بالترتيب لليوم الفائت، ثم يرجع من الجمرة الصغرى ويرمي بالترتيب لليوم الذي بعده كذلك حتى ينتهي بيومه على الترتيب، والله أعلم. [انظر: مجموع فتاوى ابن باز، ١٦/ ١٤٥، و١٧/ ٣٧٤].
قال العلامة الشنقيطي رحمه الله، ٥/ ٣٠٣: ((وبما ذكرنا تعلم أن أيام الرمي كلها كاليوم الواحد، وأن من رمى عن يومٍ في الذي بعده لا شيء عليه؛ لإذن النبي - صلى الله عليه وسلم - للرعاء في ذلك، ولكن لا يجوز تأخير يوم إلى يوم آخر إلا لعذر، فهو وقت له، ولكنه كالوقت الضروري، والله تعالى أعلم))، قلت: ويكون الرمي بعد الزوال لا قبله.
قال الإمام ابن قدامة رحمه الله في المغني، ٥/ ٣٣٣ في رمي الجمرات أيام التشريق: ((إذا أخَّر رمي يوم إلى يوم بعده، أو أخر الرمي كله إلى آخر أيام التشريق ترك السنة، ولا شيء عليه، إلا أنه يقدِّم بالنية رمي اليوم الأول، ثم الثاني، ثم الثالث، وبذلك قال الشافعي، وأبو ثور، وقال أبو حنيفة: إن ترك حصاة أو حصاتين أو ثلاثاً إلى الغد رماها وعليه لكل حصاة نصف صاع، وإن ترك أربعاً رماها وعليه دم، ولنا أن أيام التشريق وقت للرمي، فإذا أخَّره من أول وقته إلى آخره لم يلزمه شيء، كما لو أخر الوقوف بعرفة إلى آخر وقته ... والحكم في رمي جمرة العقبة إذا أخَّرها كالحكم في رمي أيام التشريق في أنها إذا لم ترمَ يوم النحر رميت من الغد، وإنما قلنا يلزمه الترتيب بنيته؛ لأنها عبادات يجب الترتيب فيها مع فعلها في أيامها، فوجب ترتيبها مجموعة، كالصلاتين المجموعتين والفوائت)) [رجح ذلك الشنقيطي في أضواء البيان، ٥/ ٢٩٥].
وقال الشنقيطي رحمه الله: ((وأما رمي جمرة العقبة فقال بعض أهل العلم: إن حكمه مع رمي أيام التشريق كواحد منها، فمن أخّر رميه إلى يوم من أيام التشريق، فهو كمن أخّر يوماً منها إلى يوم، وعليه ففيه الخلاف المذكور، وقال بعض أهل العلم: هو مستقل بوقته دونها؛ لأنه يخالفها في الوقت، والعدد؛ لأنها جمرة واحدة أو ل النهار، وأيام التشريق بعكس ذلك، وله وجه من النظر، والله أعلم)). [أضواء البيان/ ٥/ ٣٠٣].
قلت: تقدم قول ابن قدامة في المغني، ٥/ ٢٩٥: ورمي جمرة العقبة يوم النحر، قال: (( ... فإن أخّرها إلى الليل لم يرمها حتى تزول الشمس من الغد، وبهذا قال أبو حنيفة، وإسحاق، وقال الشافعي، ومحمد بن المنذر، ويعقوب: يرمي ليلاً ... )). وقد تقدم تفصيل ذلك، فيرجع إليه من شاء.

<<  <   >  >>