وكانت هذه الشواهد السابقة لشجاعته القلبية، أما شجاعته العقلية فسأكتفي بشاهد واحد؛ فإنه يكفي عن ألف شاهد ويزيد، وهو موقفه من تعنت سهيل بن عمرو، وهو يملي وثيقة صلح الحديبية، إذ تنازل - صلى الله عليه وسلم - عن كلمة <بسم اللَّه الرحمن الرحيم> إلى بسمك اللَّهم وعن كلمة <محمد رسول اللَّه> إلى كلمة: محمد بن عبد اللَّه، وقبوله شرط سهيل على أن لا يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل من قريش حتى ولو كان مسلماً إلا رده إلى أهل مكة، وقد استشاط الصحابة غيظاً، وبلغ الغضب حدًّا لا مزيد عليه، وهو - صلى الله عليه وسلم - صابر ثابت حتى انتهت الوثيقة، وكان بعد أيام فتحاً مبيناً.
فضرب - صلى الله عليه وسلم - بذلك المثل الأعلى في الشجاعتين: القلبية، والعقلية، مع بعد النظر، وأصالة الرأي، وإصابته؛ فإن من الحكمة أن يتنازل الداعية عن أشياء لا تضر بأصل قضيته لتحقيق أشياء أعظم منها (١).
وجميع ما تقدم من نماذج من شجاعته - صلى الله عليه وسلم - وثباته، وهذا نقطة من بحر، وإلا فإنه لو كُتِبَ في شجاعته - صلى الله عليه وسلم - بالاستقصاء لكُتِبَ مجلدات،
فيجب على كل مسلم، وخاصة الدعاة إلى اللَّه - عز وجل - أن يتخذوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - قدوةً في كل أحوالهم وتصرفاتهم، وبذلك يحصل الفوز
(١) انظر: وثيقة صلح الحديبية كاملة في البخاري مع الفتح، ٥/ ٣٢٩، (رقم ٢٧٣١، ٢٧٣٢)، وشرح الوثيقة في الفتح، ٥/ ٣٣٣ - ٣٥٢، ومسند أحمد، ٤/ ٣٢٨ - ٣٣١، وانظر: هذا الحبيب يا محبّ، ص٥٣٢.