للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وأحقّ النساء بان تُعشَق وتعزّز التي جمعت إلى حسن خلقها الأدب وحسن المنطق والصوت واسعد الناس حالاً من كان له حبيب يحبه كما جاء في بعض المواليات المصرية. فإنه والحالة هذه يقدم على اصعب الأعمال واعظم المساعي. ويباشرها دون أن يشعر بها. لا فكره أبداً مشغول بمحاسن حبيبه. فلو رفع صخرة في هذه الحالة على عاتقه بل فنداً لتوهم إنه رافع نعال محبوبه أو بالحري رجليه. ثم أنه مع ما يلحق المحبة من طوارئ التنغيص والخيبة والحرمان وخصوصاً مضض الغيرة فإن عيش الخلي لا خير فيه. لان الحب يبعث على المروءة والنخوة والشهامة والكرم ويلهم المحب المعاني اللطيفة والخواطر الدقيقة. ويكسبه الأخلاق المرضية. ويستوحيه إلى عمل شيء عظيم يذكر به اسمه ويحمد شأنه ولا سيما عند محبوبته. وقلما رأيت عاشقاً به جفاء وفظاظة أو رثاء وبلادة أو دناءة وخساسة. وقال بعض العزهين وأظنه من التيتائيين. لو لم يمنع من عشق امرأة شيء بعد التعفف والتوّرع سوى الاضطرار إلى حبها لكفى لان الإنسان متى علم إنه مسخّر لحب شيء ومكلّف به ملّه بالطبع ونفر منه. قال فيكون حب المرأة على هذا مغايراً للطبع. هذا إذا كان الرجل شهماً عزيز النفس عالي الهمة. فأما الأوباش من الناس فلا معرفة لهم بقدر أنفسهم فهم يتساقطون على حب المرأة حيثما عنّت لهم وكيفما اتفق. قلت هو كلام من لم يذق الحب أو من كان مفرّقاً ولو سمع أنثى تقول له يوما احمل يا روحي هذا الحمل من الحطب على رأسك. أو احبُ يا عيني على أستك كالولد الصغير للبّاها حاملا وزحنقفاً.

ثم أن للعشاق مذاهب مختلفة في العشق فمنهم من يهوى ذات التصنع والتمويه والعجب. ومنهم من لا يعجبه ذلك وإنما يؤثر الحسن الطبيعي. وأن يكون في محبوبته بعض الغفلة والبلاهة وإلى هذا أشار المتنبي بقوله:

حسن الحضارة مجلوب بتطرئة ... وفي البداوة حسن غير مجلوب

ومثل الأول مثل من يقدم له لون من الطعام وبه قمة فيحتاج إلى التفحية والتقيت ومثل الثاني مثل من به سيْفَيَّنة وسرْطميَّة فلا يمنعه عدم التفحية والتوابل من أن يلسو ويلوس ويلثى ثم يلحس قعر الجفنة بعد فراغه منها. فأما رغبة بعض الناس في الغفول والبلاهة فإنها مبنية على أن المحبّ لا يزال يقترح من محبوبته أشياء كثيرة تبعث إليها الحاجة. فمتى كانت ذات دهاء وذكاء خشي أن تمله وتحرمه. ومنهم من يزيد في المرأة غراماً إذا كانت ذات عزة وشرّة ومعاسرة فيكون استرضاؤها ادعى إلى النشاط والسعي. وهذا يفعله في الغالب من يتفرغ للهوى ويتصدى له من كل جهة. ومنهم من يعشق المرأة لاتسامها بسمة الشرف وسيادة أو وجاهة. وذلك دأب ذوي الطموح والاستطاعة. ومن هذا الصنف من إذا رأى المرأة امرأة وضيعة تشبه امرأة شريفة عشقها لأجل حصول المشابهة فقط. ويقال لأهل هذا المذهب المشبهية. وهو في النساء اكثر فإن المرأة لا تكاد ترى رجلاً إلا وتقول لعله يشبه بعض الأمراء الغابرين أو الحاضرين أو الآتين ومنهم من يعشق من بها ذلة وانكسار وملاينة. وذلك شأن ذوي الرفق والرقة. ومنهم من يعشق من على طلعتها آثار الحزن والكآبة والفكرة. وهو مذهب ذوي الحنين والطرب. ومنهم من يعشق ذات البشر والطلاقة والأنس. وهو خلق المحزونين المبتئسين. فإن النظر إلى مثل هذه ينفي الهم. ويجلو الكرب والغم. ومنهم من يعشق من بها مرح ونزق وطيش وثرثرة وقهقهة. وهو دأب السفهاء والجهلاء. ومنهم من يعشق المرأة لأدبها وفهمها وحسن كلامها ومحاضرتها وسرعة جوابها. وهو مذهب العلماء والأدباء. ومنهم من يعشق من تكون كثيرة الحليّ والتأنق في الملبوس كثيرة الغنج والتمويه وهو طريقة ذوي السرف والشطط. ومنهم من يعشق الماجنة المتهتكة المستهترة. وهو شأن الفساق الفجار. ومنهم من يعشق الخيتعور الشهوانية المتلعجة الطفسة. وهو خلق من مبلغ منه العُهر كل مبلغ. ومنهم من يعشق اللاّعة الخريدة العفيفة ابتغاء أن يفسدها ثم يتباهى بذلك بين أقرانه. فإذا رضيت له ملها أو أرادها أن تكون على غير تلك الحال وهو عندي شرّ من عاشق المتوهجة. ومنهم من يحب اجتماع هذه الصفات المختلفة كلها في محبوبته بحسب اختلاف الأحوال. هذا في الخُلق فأما في الخَلق فالنحيف يهوى السمينة وبالعكس. والأسمر يحب البيضاء وبالعكس. والطويل يحب القصيرة وبالعكس. والأملط يحب الكثيرة الشعر وبالعكس.

<<  <   >  >>