للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقد بلغني أن امرأة سوقية متزوجة أي من حزب شيخ السوق رأت رجلاً جميلاً من الخرجيين فاستخسرته فيهم. وقالت لو دخل هذا الرجل كنائسنا لزادت به بهجة ورونقا. فأرسلت إليه عجوزاُ تدعوه إليها فلبّى الفتى دعوتها. لأن عداوة السوقيين والخرجيين إنما هي مقصورة على الضواضرة والنجشيين والمحترفيين لا مبلغ لها عند الرجال والنساء. ففاضت معه في الحديث إلى أن قالت له كنت تتبع طريقنا فإني أمكنك من نفسي ولا امنع عنك شيئاً. فقال لها الشاب أما الذهاب إلى الكنيسة فأهون ما يكون عليّ لكونه قريبة من منزلي. وأما الاعتقاد فكليني إلى نيتي. فإني آنف من هذا الاعتراف الذي يكلفكم به القسيسون من أهل كنيستكم. وليس من طبعي الكذب والتدليس حتى اعترف للقسيس بالصغائر واكتم عنه الكبائر كما يفعله كثير من السوقيين. أو اذكر له ما لم أفعله وأخفي عنه ما فعلته. فتأوّهت المرأة عند ذلك وأطرقت وهي تفكر وتحرك رأسها. ثم قالت لا بأس أنَّا ليكفينا منك الظاهر كما أفادنيه قسيسي. ثم تعانقا وتعاشقا وجعل يتردد عليها وعلى الكنيسة معاً. حتى أن الزواني في هذه الجزيرة متهوسات في الدين. فإنك تجد في بيت كل واحدة منهن عدة تماثيل وصور لمن يعبدونه من القديسين والقديسات. فإذا دخل إلى إحداهن فاسق ليفجر بها قلبت تلك التماثيل فأدارت وجوهها إلى الحائط لكيلا تنظر ما تفعله فتشهد عليها بالفجور في يوم النشور.

قال ومن خصائص أهل هذه الجزيرة إنهم يبغضون الغريب ويحبون ماله وهو غريب. فإن مال الإنسان عبارة عن حياته ودمه وذاته. حتى أن الإنكليز إذا سألوا عن كمية ما يملكه الإنسان من المال قالوا كم قيمة هذا الرجل. فيقال قيمته مثلاً ألف ذهب. فكيف يتأتَّى لأحد أن يبغض آخر ويحب حياته؟ وإنهم يتجاذبون كل غريب قدم إليهم. فيأخذه واحد منهم بيده اليمنى ليريه النساء. ويمسكه الآخر ليريه الكنائس والدولة لمن غلب. ومن خصائصهم أيضاً إنهم يتكلمون بلغة قذرة طفسة منتنة بحيث إن المتكلم يشم منه رائحة البخر أول ما يفوه. والرجال والنساء. في ذلك سواء. وإذا استنكهت امرأة جميلة وهي ساكتة نشيت منها عرفاً ذكياً. فإذا استنطقتها استحالت إلى بخر. ومنها أنه إذا أصيب إحدى النساء بداء في أحد أعضائها ذهبت إلى الصائغ وأمرته بأن يصوغ لها مثال ذلك العضو من فضة أو ذهب لتهديه للكنيسة. ومن كانت معسرة صاغته من الشمع ونحوه. ومن ذلك إن حلق اللحى والشوارب مندوب وحلق ما سواهما محرم. حتى أن القسيسين يلحّون على النساء في السؤال كثيراً حين يعترفن لهم عن قضيتي النتف والحلق ويحرزونهن من ارتكاب ذلك. ومنها أن لأهل الكنائس عادة أن يخرجوا في أيام معلومة بما في كنائسهم من الدمى والتماثيل على ثقلها وضخمها. يحملونها على أكتاف المتحمسين في الدين فيجرون بها في الشوارع وهم ضاجون. وأغرب من ذلك أنهم يوقدون أمامها الشموع حين يود كل إنسان أن يؤدي إلى كهف في بطن الأرض من شدة توهج الشمس. وغير ذلك كثير مما حمل الفارياق على العجب. لأن أهل بلاده مع كونهم سوقيين ولهم حرص زائد على عداوة الخرجيين لا يفعلون ذلك. وحين ثبت أن الخرجيين هم على هدى إلاّ في أكل الخنزير. وإن السوقيين على ضلال ما عدا استحسان نسائهم لغيسانّي الخرجيين. إلا أنه ليس من طريقة في الدنيا إلا وفيها ما يحمد وما يذم. وإن الإنسان تراه في بعض الأمور عاقلا رشيدا وفي غيرها جاهلا غويا. فسبحان المتصف وحده بالكمال. وإنما ينبغي للناقد المنصف أن ينظر إلى الجانب الأنفع ويقابله بغيره. فإن رأى نفعه أكثر من ضره حكم له بالفضل. لا أن يمني نفسه بأن يجد شيئاً من الأشياء كاملاً. قال الشاعر:

ومن ذا الذي ترضي سجاياه كلها ... كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه

<<  <   >  >>