للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والعامة عيدان مشدودة تركب في البحر ويعبر عليها في النهر ويقال لها أيضا العامة.

وإنه بعد وصوله إلى مرسى الجزيرة اعد له فيه مكان حسن لتطهير أنفاسه به مدة أربعين يوما. إذ قد جرت العادة عندهم بأن من قدم إليهم من البلاد المشرقية وقد استنشق هواها فلا بد وأن ينثره في المرسى قبل دخوله البلد. فأقام فيها يأكل ويشرب مع اثنين من أعيان الإنكليز ممن ركبوا في السفينة. وطاب له العيش معهما قد ساحا في بلدان كثيرة من المشرق وأخذا عن أهلها الكرم. ثم بعد انقضاء المدة جاء الخرجي وأخذه إلى منزله بالمدينة وكان المذكور قد فقد زوجته من يوم نوي تسفير الفارياق إليه. فلزم الحداد والتقشف. ولزمته الكآبة والتأسف. وأن لا يأكل غير لحم الخنزير أعلى الله شأنك عن ذكره. وإنما أمر طباخه بأن يتفنن فيه. فيوما كان يطبخ له رأسه. ويوما رجليه. ويوماً كبده. ويوماً طحاله. حتى يأتي على جميع آرابه ثم يستأنف من الرأس. وأنت خبير بأن نصارى الشام يحاكون المسلمين في كل شيء ما خلا الأمور الدينية. فمن ثم كان لحم الخنزير عندهم منكراً. فلما جلس الفارياق على المائدة وجاء الطباخ بأرب من هذا الحيوان الكريه ظن أن الخرجي يمازحه باراءته إياه شيئاً لم يعرفه. فامتنع أن يأكل منه طعماً في أن ينال من غيره. وإذا بالخرجي قضى فرض الغداء وشرع حالاً في الصلاة والشكر للباري تعالى على ما رزقه. فقال الفارياق في نفسه قد خطأ والله صاحبي. فإنه وضع الشكر في غير موضعه إذ الثناء على الخالق سبحانه لأجل فاحشة أو أكل سحت لا يجوز. وفي اليوم الثاني جاء الطباخ بعضو آخر. فالتقمه وشكر عليه أيضاً. فقال الفارياق للطباخ لم يشكر الله صاحبنا على أكل الخنزير. قال ولم لا وقد أوجب على نفسه أن يشكر له على كل حال وعلى كل شيء كما ورد في بعض كتب الدين. حتى أنه كان يقضي هذا الفرض بعد أن يبيت مع زوجته. قال وهل شكر له على موتها. قال نعم فإنه يعتقد أنها الآنفي حضن إبراهيم. قال أما أنا فلو كان لي امرأة لما أردت أن تكون في حضن أحد. ثم أن دولة الخنزير اعتزت وعظمت. ومصارين الفارياق ضويت وذوت. فكان يقضي النهار كله على الخبز والجبن. ثم بلغه أن خبز المدينة يعجن بالأرجل ولكن بأرجل الرجال لا النساء فجعل يقلل منه ما أمكن. حتى اضَّر به الهزال. وصدئت أضراسه من قلة الاستعمال. فوقع منها اثنان من كل جانب واحد. وهذا أول أنصاف فعله الجوع على وجه الأرض. إذ لو كانا وقعا من جانب واحد لثقل أحد الجانبين وخفّ الآخر فلم تحصل الموازنة في حركات الجسم.

أما المدينة فإن القادم إليها من بلاد الشرق يستحسنها ويستعظمها. والقادم إليها من بلاد الإفرنج يحتقرها ويستصغرها. واعظم ما حمل الفارياق فيها على العجب صنفان صنف القسيسين وصنف النساء. أما القسيسون فلكثرتهم فأنك ترى الأسواق والمنازة غاصة بهم. ولهم على رؤوسهم قبعات مثلثة الزوايا لا تشبه قبعات السوقيين في الشام. وسراويلهم أشبه بالتباين فأنها إلى ركبهم فقط. وسيقانهم مغطاة بجواريب سود. والظاهر أنها عظيمة لأن جميع القسيسين في هذه الجزيرة معلفون سمان. وقد جرت العادة عندهم أيضاً بأن القسيسين وأهل الفضل والكمال من غيرهم يحلقون شواربهم ولحاهم. وإنما يجب على القسيسن خاصة أن يلبسوا سراويلات قصيرة مزنقة حتى يمكن للناظر أن يتبين ما وراءها. فأما النساء فلاختلاف زيهن عن سائر نساء البلاد المشرقية والإفرنجية. ولأن كثيراً منهن لهن شوارب ولحى صغيرة ولا يحلقنها ولا ينتفنها. وقد سمعت إن كثيراً من الإفرنج يحبون النساء المتذكرات. فلعل هذا الخبر الغريب بلغ أيضاً مسامعهن. كيف لا وأهواء الرجال لا تخفى عن النساء. والحسن فيهن قليل جداً. وانتقادهن إلى القسيسين غريب. فإن المرأة منهن تؤثر قسيسها على زوجها وأولادها وأهلها جميعاً. ولا يمكن أن تتخذ طعاماً فاخراً من دون أن تهديه باكورته حتى كل منه أكلت هي.

<<  <   >  >>