قال: ينبغي أن نبتدئ أولا فنخبر بالشيء الذي عنه الفحص في هذا الكتاب وبالمنفعة الحاصلة عن الشيء المفحوص عنه. ثم بعد ذلك نخبر بالأشياء التي تتنزل من هذا الكتاب بمنزلة الأصول والمبادئ لسائر ما يتكلم فيه- وهي أن نعرف ما هي المقدمة، وما هو الحد، وما هو القياس، وأي القياسات كامل وأيها غير كامل، وما المحمول على كل شيء أو ليس بمحمول على كل الشيء أولا على شيء منه.
فنقول: أما الشيء الذي عنه الفحص في هذا الكتاب فهو البرهان لأن القياس إنما الفحص عنه من أجل الفحص عن البرهان. وأما المنفعة الحاصلة منه فهو حصول العلم البرهاني في جميع الموجودات على أتم ما في طباعها أن تحصل للإنسان.
فأما المقدمة فهي قول موجب شيئا لشيء أو سالب شيئا عن شيء. والمقدمة لها انقسام من جهة الكيفية وانقسام من جهة الكمية. أما من جهة الكمية فمنها كلية ومنها جزئية ومنها مهملة. وأما من جهة الكيفية فمن قبل أن كل واحدة من هذه إما موجبة وإما سالبة. فالكلية الموجبة هي ما أوجب فيها المحمول لكل الموضوع- مثل قولنا كل إنسان حيوان. والسالبة الكلية هي ما سلب فيها المحمول عن كل الموضوع- مثل قولنا ولا إنسان واحد حجر. والجزئية الموجبة هي ما أوجب فيها المحمول لبعض الموضوع- مثل قولنا بعض الحيوان إنسان. والجزئية السالبة هي إما سالب المحمول عن بعض الموضوع- مثل قولنا بعض الحيوان ليس بإنسان- وإما سالب الكلية عن الموضوع- قولنا ليس كل حيوان إنسانا- فإن السالبة الجزئية لها عبارتان، إحداهما رفع البعض والثانية رفع الكل الموجود فيها. والمهملة هي التي لا يقرن بها سور أصلا لا كلي ولا جزئي- مثل قولنا العلم بالأضداد واحد، واللذة ليست بخير. فهذه هي أقسام المقدمة من جهة الصورة- اعني الأقسام النافعة في معرفة القياس بإطلاق.
وأما انقسام المقدمة من جهة المادة فمنها برهانية ومنها جدلية إلى غير ذلك من الأقسام التي يلحقها من جهة المواد المستعملة في الصنائع المنطقية على ما سنبين بعد من هذه الصناعة. والمقدمة البرهانية والجدلية يفترقان بأشياء. أحدها أن المقدمة البرهانية إنما هي أحد جزءي النقيض وهو الصادق. وأما المقدمة الجدلية فقد تكون كل واحدة من جزءي النقيض إذ كانت إنما تؤخذ متسلمة من المجيب، والمجيب فقد يجيب بكل واحد من جزءي النقيض إذ كان السائل يفوض إليه في هذه الصناعة عند السؤال أن يجيب بأي جزءي النقيض أحب. وليس الفرق الذي بين المقدمة البرهانية والمقدمة الجدلية مما له تأثير في وجود القياس عنها، بل ليس بينهما في ذلك فرق أصلا. فإن المبرهن والجدلي قد يقيس كل واحد من هؤلاء قياسا صحيحا إذا أخذ شيئا محمولا على شيء أو غير محمول- أعني إذا وضع مقدمة من المقدمات فتكون المقدمة القياسية التي هي كالجنس للمقدمة البرهانية والجدلية، وهي التي ينظر فيها في هذا الكتاب، هو قول موجب شيئا لشيء أو سالب شيئا عن شيء. وأما المقدمة البرهانية فهي التي تكون من المعلومات الأول بالطبع. وأما الجدلية أما للقياس فمن المشهورات، وأما للسائل فمن المتسلمات المشهورة. والفصول التي تنفصل بها هذه المقدمات بعضها من بعض هي مستوفاة في كتاب البرهان وكتاب الجدل، والنظر فيها من هذه الجهة هو هنالك. وكذلك فصول سائر المقدمات هي مستوفاة في الصنائع الخاصة بها- مثل المقدمات السوفسطائية والخطبية والشعرية. وأما هاهنا فيكفي من معرفة فصول المقدمات هذا القدر الذي ذكر.
وأما الحد فإنه يدل به في هذا الكتاب على الشيء الذي تنحل إليه المقدمة مما هو جزء ضروري في كونها مقدمة- وهو المحمول والموضوع اللذان هما جزءا المقدمة الضروريان في وجودها- لا الأشياء التي تزاد في المقدمة لموضع الرباط- وهي الكلم الوجودية- فإن تلك ليست تنحل إليها المقدمة على أنها أجزاء ضرورية فيها، إذ كانت قد تكون المقدمة مقدمة بالفعل وإن كانت الكلم الوجودية موجودة فيها بالقوة وفي الضمير على ما جرت عليه العادة عند العرب في الثلاثية وعلى ما عليه الأمر في الثنائية- أعني من أنه ليست بها حاجة إلى الكلم الوجودية. وسواء في هذا المعنى المقدمات الموجبة والسالبة.