فقد قيل من أي شيء تكتسب المقاييس وكيف تكتسب وإلى أي شيء ينبغي أن نقصد في كل نوع من أنواع المطالب.
[الفصل الثالث]
[رد المقاييس المستعملة في الكتب إلى هذه الأشكال]
قال: وقد بقي علينا بعد ذلك أن نقول كيف تكون لنا قدرة على رد المقاييس المستعملة في الكتب والمخاطبات إلى هذه الأشكال وتحليلها إليها، إذ كانت ليست تستعمل في الكتب والمخاطبات على الطريق الذي ذكرناه، لأن هذا هو الأمر الثالث الذي بقي علينا أن ننظر فيه من أمر المقاييس لأنه إذا عرفنا أنواع المقاييس وكانت لنا قدرة على عملها وقدرة على أن نرد جميع ما يقع منها في الكلام والمخاطبة إلى الأشكال التي ذكرناها فقد تم لنا غرضنا الأول من معرفة القياس مع أنه يعرض لنا عندما نتكلم في حل المقاييس إلى الأشكال التي ذكرنا أن نزداد يقينا بما قيل من أن كل قياس إنما يكون بواحد من الأشكال المتقدمة لأنه إذا وجدنا جميع المقاييس المستعملة في الكتب والمخاطبات ترجع إلى هذه الأشكال حصل لنا بضرب من الاستقراء أن هذه الأشكال هي اسطقسات جميع المقاييس. وهذا هو شأن الشيء الذي يقوم عليه البرهان- أعني أن يوجد حقا من كل وجه يتأمل منه ومتفقا من كل جهة من جهاته. فإن الحق كما يقول أرسطو شاهد لنفسه ومتفق من كل جهة- يعني أنه تشهد منه جهة لجهة.
فأول ما ينبغي أن يفعله من يريد حل المقاييس إلى هذه الأشكال أن يروم وجود المقدمتين في ذلك القول القياسي، فإن المقدمتين هي أعظم أجزاء القياس، وقسمة الشيء إلى أعظم أجزائه أسهل من قسمته إلى أصغر أجزائه. ثم من بعد ذلك فينبغي أن يعلم أيما هي المقدمة الكبرى وأي هي الصغرى، وذلك بين من طرفي المطلوب، وهل صرح بهما معا في ذلك الكلام القياسي أم إنما صرح بواحدة منهما. وإن كان صرح بواحدة وسكت عن واحدة فأي هي المسكوت عنها المحذوفة، هل الكبرى أو الصغرى. فإنه كثيرا ما يعرض في الكلام المتلو والمقروء أن يصرحوا بالكبرى ويحذفوا الصغرى أو يصرحوا بالصغرى ويحذفوا الكبرى. وكثيرا أيضا ما يضعون في القياس من مقدمات ليست نافعة لا في إثبات النتيجة ولا في إبطالها، وذلك إما للإيضاح وإما للإقناع وأما لغير ذلك من الوجوه التي عددت في الثامنة من الجدل. فينبغي لذلك أن نفحص هل أخذ في ذلك القول القياسي مقدمة زائدة أو نقص منه مقدمة ضرورية لنرفض الزائد ونضع الناقص حتى نجد المقدمتين اللتين منهما ائتلف القياس، لأنه متى لم نجد المقدمتين لم يمكن أن نرد القول القياسي إلى أحد الأشكال المتقدمة. ومن الكلام القياسي ما تسهل معرفة ما فيه من الزيادة والنقصان، ومنه ما يعسر، ومنه ما يظن أنه قياس ما- من جهة أنه يلزم عنه شيء باضطرار- وليس بقياس، إذ ليس كل ما يلزم عن شيء باضطرار فهو لازم لزوما قياسيا بل ما لزم باضطرار عن مقدمتين نسبة إحداهما إلى الأخرى نسبة الكل إلى الجزء فهو قياس. فمثال ما هو ناقص ويعسر معرفة ما نقص منه قول من قدم لإنتاج أن أجزاء الجوهر جوهر أن ببطلان غير الجوهر ليس يبطل الجوهر وببطلان أجزاء الجوهر يبطل الجوهر، فإن هذه النتيجة هي لازمة عن هذا القول لكن تنقصه المقدمة الكبرى- وهي أن ما يبطل الجوهر ببطلانه فهو جوهر- وهذه المقدمة هي لازمة من المقدمة التي صرح بها في هذا القول- وهو أن ما ليس بجوهر فليس يبطل الجوهر ببطلانه- وذلك أنه إذا صحت لنا هذه المقدمة صح لنا عكس نقيضها- وهو أن ما يبطل الجوهر ببطلانه فهو جوهر، فإذا أضفنا إلى هذه الصغرى- وهو أن أجزاء الجوهر يبطل ببطلانه الجوهر- أنتج لنا في الشكل الأول أن أجزاء الجوهر جوهر. وقد يمكن أن نحل هذا القول إلى غير هذا الشكل- مثل أن يقال أجزاء الجوهر ببطلانها يبطل الجوهر وهو غير جوهر فلا يبطل ببطلانه الجوهر فينتج في الشكل الثاني أن أجزاء الجوهر ليست غير جوهر ثم يضاف إلى هذا وما ليس هو غير جوهر فهو جوهر فينتج أن أجزاء الجوهر جوهر. ومثال ما نقص منه بعض المقدمات- ومعرفة ذلك مهمل- قولنا إن كان الإنسان موجودا فالحي موجود وإن كان الحي موجودا فالجوهر موجود، فإن كان الإنسان موجودا فالجوهر موجود، وذلك أنه نقص من هذا وكل إنسان حي وكل حي جوهر.