وهذا النوع من القول الذي مصادرة هو أن يروم إنسان أن يبين شيئا مجهولا بذلك الشيء نفسه- وأعني بالشيء المجهول ما لا يمكن أن يبين إلا بغيره. فإن الأشياء المعلومة صنفان، إما معلومة بأنفسها- وهي المقدمات الأول- وإما معلومة بغيرها- وهي التي تعلم بالمقدمات الأول. فمتى رام إنسان أن يبين شيئا مما يعلم بغيره بنفسه فهو الذي يسمى في هذه الصناعة مصادرة- وهو وضع المطلوب الأول. وهذا الفعل من الغالط أو المغالط يقع على وجهين. أحدهما أن يضع المطلوب نفسه مقدمة في بيان نفسه، وذلك يعرض إذا كان المحمول والموضوع في المطلوب اسمين مترادفين على ما سيأتي بعد. والوجه الثاني أن يبين نتيجة ما بمقاييس كثيرة مركبة من مقدمات كثيرة سبيل إحدى تلك المقدمات أن لا يتبين إلا إذا استعملت تلك النتيجة مقدمة في القياس المنتج لها- مثل أن يبين إنسان أن اَ موجودة في هَ بأن يأخذ أن اَ موجودة في بَ وبَ في هَ، ثم يبين وجود بَ في هَ بوجود بَ في جَ وجَ في هَ، ثم يبين وجود اَ في بَ بوجود اَ في هَ- التي هي النتيجة- ووجود هَ في بَ. فإنه لا فرق بين هذا الصنف والصنف الأول إلا أن الصنف الأول أنتج فيه الشيء المقصود إنتاجه من الشيء نفسه وهذا الصنف أنتج فيه الشيء المقصود إنتاجه بأكثر من واسطة واحدة. والغلط في هذا الصنف الثاني يقع كثيرا لموقع النسيان- مثل ما يعرض لمن يبرهن أنه إذا وقع خط مستقيم على خطين مستقيمين فصير الزاويتين اللتين في جهة واحدة مساويتين لقائمتين أن الخطين متوازيان، فإنهما إن لم يكونا متوازيين فإنهما إذا أخرجا على استقامة التقيا في إحدى الجهتين فيكون هنالك مثلث تكون زواياه أكبر من قائمتين، وذلك خلف لا يمكن فإن كون المثلث ذا زاويتين قائمتين إنما يبين بالخطوط المتوازية. وبالجملة يعرض لمن يستعمل هذا النوع من البيان من الشناعة ما يلحق من يقيس فيقول إن كان هذا الشيء موجودا فهذا الشيء موجود. وعلى هذه الجهة تكون الأشياء كلها معلومة بأنفسها وغنية عن أن تعلم بغيرها.
فمتى كان عندنا شيء مجهول الوجود لشيئين مختلفين وكان وجود أحد ذينك الشيئين للآخر معلوما بنفسه ورمنا أن نبين وجود ذلك الشيء المجهول لأحد ذينك الشيئين بوجوده للشيء الآخر، فقد بينا المجهول بمجهول. لكن ليس يلزم أن يكون مثل هذا البيان هو البيان الذي يعرف بالمصادرة- مثل أن يكون عندنا مجهولا وجود اَ في بَ وفي جَ ووجود بَ في جَ بينا بنفسه فنريد أن نبين وجود اَ في جَ بوجوده في بَ. وإنما يجب أن يكون مثل هذا البيان مصادرة، أما في الحقيقة فمتى كان الشيئان شيء واحد بعينه بالحقيقة- أعني جَ وبَ- وإنما يختلفان بالأسماء وذلك إذا كان لهما اسمان مترادفان، وأما في الظن المحمود فإذا ظن ببَ وجَ أنهما شيء واحد من غير أن يكونا في الحقيقة شيئا واحدا بالعدد وذلك يعرض إذا كان كل واحد منهما منعكسا على صاحبه- مثل أن يكون أحدهما خاصة للآخر أو حدا أو رسما- أو كان أحدهم يلزم الآخر وإن لم يكن منعكسا- مثل لزوم الحيوان عن وجود الإنسان- لكن هذه هي مصادرة في المشهور لا في الحقيقة. وأما إذا كانا مختلفين بالاسم فقط فهي مصادرة حقيقية- مثل أن يبين إنسان في هذا الشيء المشار إليه أنه بعير لأنه جمل. وكذلك متى كان عندنا شيئان مجهولا الوجود لشيء آخر وكلاهما معلوم الوجود للآخر وأردنا أن نبين وجود أحدهما لذلك المجهول بوجود الآخر له، فإنه ليس يكون هذا مصادرة على المطلوب ما لم يكن ذانك الشيئان المعلوم وجود أحدهما للآخر هما في الحقيقة شيء واحد أو يظن بهما أنهما شيء واحد إما لمكان أن كل واحد منهما منعكس على صاحبه وإما لأنه يلزمه- مثل أن يكون عندنا اَ وبَ مجهولي الوجود في جَ ويكون وجود اَ لبَ معلوما، فإنه ليس يكون ذلك مصادرة على المطلوب ما لم يظن أن اَ وبَ شيء واحد بعينه أو يكونا شيئا واحدا بعينه.