فأما الاستقراء فإنه إنما يبين فيه أبدا وجود ما شأنه أن يكون طرفا أكبر في القياس فيما شأنه أن يكون حدا أوسط في القياس بما شأنه أن يكون فيه طرفا أصغر، وبهذه الجهة يكون اللازم عنه واجبا ضرورة. مثال ذلك أن يكون الحد المتوسط بين اَ وجَ من جهة ما الحمل فيها على المجرى الطبيعي حرف بَ ويكون اَ هو الحد الأكبر بالطبع وبَ الأوسط بالطبع وجَ الأصغر. فيتبين بحرف جَ وجود اَ في بَ لا وجود اَ في جَ بحرف بَ على جهة ما يكون عليه البيان في القياس. ومثال ذلك من المواد أن نأخذ بدل اَ الحيوان الطويل العمر وعوض بَ الحيوان الصغير المرارة وعوض جَ البغل والفرس والإنسان، فيبين أن كل حيوان صغير المرارة فهو طويل العمر بأن نستقرىء جميع أصناف الحيوانات الصغيرة المرارة الطويلة العمر- مثل البغل والحمار والفرس- فيبين منها أن كل حيوان صغير المرارة فهو طويل العمر. وإذا كان الاستقراء هو هذا فهو بين أن الطويل العمر هو الحد الأكبر هاهنا بالطبع والأوسط الصغير المرارة، والأصغر الجزئيات. ونحن إنما بينا وجود الأكبر في الأوسط بوجوده في الأصغر. وإنما يكون هذا البيان لازما عن الاستقراء لزوما صحيحا- أعني مناسبا للزوم النتيجة عن القياس الصحيح الشكل- متى اسقرينا جميع الأصناف الصغيرة المرارة فوجدنا جميعها طويل العمر، لأنه حينئذ يجب إذا كان اَ وبَ موجودتين في كل جَ- أي الطويل العمر والصغير المرارة في البغل والفرس والحمار والإنسان- أن تكون اَ موجودة في كل بَ كما تبين قبل هذا. وذلك أنه إذا استقرينا جميع الحيوانات الجزئية التي أخذنا عوضها حرف جَ انعكس حرف بَ على حرف جَ في الحمل، فلزم عن ذلك أن تكون اَ في كل بَ على ما تبين قبل هذا. فلهذا ما يجب أن يكون اللازم عن الاستقراء لازما صحيحا إذا استوفيت فيه جميع الجزئيات، لأنه يأتلف القياس هكذا: كل صغير المرارة فهو إما بغل وإما فرس وإما حمار وإما إنسان وكل واحد من هذه طويل العمر، فكل قليل المرارة طويل العمر ضرورة. وأما إذا لم تستوف فيه جميع الجزئيات فليس يلزم عنه شيء بالضرورة.
وليس اشتراط هذا في الاستقراء مما ينقله من الاستقراء المستعمل في الجدل إلى الاستقراء المستعمل في البرهان كما ظن قوم. فإن الاستقراء المستعمل في البرهان التصديق به إنما يكون من خارج وبحصول شيء لنا لا يفيده الاستقراء بالذات وإن استوفيت فيه جميع الجزئيات- وهو كون المحمول ذاتيا للموضوع. فبهذا ينفصل هذا الاستقراء من الاستقراء البرهاني. وأما أن هذا الاستقراء يجب أن يكون خاصا بالجدل أو بالجملة جدليا، فذلك يظهر من أن شرط صناعة الجدل أن يكون القياس فيها صحيح الشكل. وإذا كان ذلك كذلك فواجب أن يكون الاستقراء مستعملا فيها بجهة يلزم عنها الشيء الذي يقصد بيانه به ضرورة. ثم ينفصل من الاستقراء المستعمل في البرهان إما بالذي قلناه من الحمل الذاتي وإما بأن يكون الاستقراء المستعمل في الجدل استوفيت فيه جميع الجزئيات التي هي جميع في المشهور لا التي هي جميع في الحقيقة. فعلى هذا ينبغي أن يفهم الأمر عن أرسطو هاهنا، وبه تنحل جميع الشكوك التي يتردد فيها أبو نصر. فأما هل تستعمل صناعة الجدل النوع من الاستقراء الذي لا يستوفى فيه جميع الجزئيات بل أكثرها وهل هو استقراء أو قوته قوة مثال، فذلك شيء يفحص عنه في كتاب الجدل.
قال: والاستقراء إنما تبين به أبدا ما ليس شأنه أن يبين بحد أوسط ولا هو أيضا ظاهر بنفسه، لأن ما شأنه أن يبين بحد أوسط فليس يمكن أن يبين إلا به وما هو ظاهر بنفسه فاستعمال الاستقراء فيه فضل. وهذا أحد ما يخلف به الاستقراء القياس والاستقراء- كما قلنا- يشارك القياس في أنه يكون بثلاثة حدود، ويخالفه أيضا في أن القياس يبين به وجود الطرف الأكبر للأصغر بالحد الأوسط، وأما الاستقراء فيبين فيه وجود الطرف الأكبر في الحد الأوسط بوجوده في الطرف الأصغر- أعني فيما شأنه أن يكون في القياس طرفا أكبر وحدا أوسط وطرفا أصغر، لا أن الذي يبين في الاستقراء هو فيه حد أصغر ولا أن الذي به يبين وجود المطلوب فيه هو فيه حد أوسط. ويخالفه أيضا القياس في أنه أقدم بالطبع والاستقراء أقدم في المعرفة. فهذه الثلاثة الأشياء هي التي بها يخالف القياس الاستقراء التام لا غير ذلك.