للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

(٥) وربما كان ذلك أيضاً لأن النخوة العربية في بيئة قبلية من عادتها أن تثور للمظلوم الذي يحتمل الأذى، ولا يتراجع وبخاصة إذا كان الأذى واقعاً على كرام الناس فيهم. وقد وقعت ظواهر كثيرة تثبت صحة هذه النظرة في هذه البيئة - فابن الدغنة (١) لم يرض أن يترك أبا بكر - وهو رجل كريم - يهاجر ويخرج من مكة، ورأى في ذلك عاراً على العرب! وعرض عليه جواره وحمايته.. وآخر هذه الظواهر نقض صحيفة الحصار لبني هاشم في شعب أبي طالب.

(٦) وربما كان ذلك أيضاً لقلة عدد المسلمين حينذاك وانحصارهم في مكة حيث لم تبلغ الدعوة إلى بقية الجزيرة، أو بلغت ولكن بصورة متناثرة، حيث كانت القبائل تقف على الحياد من معركة داخلية بين قريش وبعض أبنائها، لترى ماذا يكون مصير الموقف. ففي مثل هذه الحالة قد تنتهي المعركة المحدودة إلى قتل المجموعة المسلمة القليلة - حتى ولو قتلوا هم أضعاف من سيقتل منهم - ويبقى الشرك، ولا يقوم للإسلام في الأرض نظام، ولا يوجد له كيان واقعي، وهو دين جاء ليكون منهج حياة ونظام دنيا وآخرة.

(٧) إنه لم تكن هناك ضرورة قاهرة ملحة، لتجاوز هذه الاعتبارات كلها، والأمر بالقتال، ودفع الأذى، لأن الأمر الأساسي في هذه الدعوة كان قائماً ومحققاً وهو " وجود الدعوة" ووجودها في شخص الداعية محمد صلى الله عليه وسلم، وشخصه في حماية سيوف بني هاشم، فلا تمتد إليه يد إلا وهي مهددة بالقطع. ولذلك لا يجرؤ أحد على منعه من إبلاغ الدعوة وإعلانها في ندوات قريش حول الكعبة، ومن فوق جبل الصفا، وفي الاجتماعات العامة ولا يجرؤ أحد على سجنه أو قتله، أو أن يفرض عليه كلاماً بعينه يقوله، بل إنهم حين طلبوا إليه أن يكف عن سب آلهتهم وعيبها لم يكف، وحين طلبوا إليه أن يسكت عن سب دين آبائهم وأجدادهم لم يسكت، وحين طلبوا إليه أن يدهن فيدهنوا، أي يجاملهم فيجاملوه، بأن يتبع بعض تقاليدهم ليتبعوا بعض عبادته لم يدهن.


(١) ابن الدغنة رجل جاهلي أجار أبا بكر عندما أخرجه قومه وأراد الهجرة للحبشة. انظر الإصابة (٢/٣٤٤) .

<<  <   >  >>