فان هؤلاء القوم قد أقاموا بمكانهم لا يخرجون منه، وامدادهم تترى عليهم كل يوم فقال عمرو: الرأي ان تشيع ان امير المؤمنين توفى، ثم ترتحل بجميع من معك، فان القوم إذا بلغهم ذلك طلبونا فنقف لهم عند ذلك، ففعل النعمان ذلك، وتباشرت الأعاجم، وخرجوا في آثار المسلمين، حتى إذا قاربوهم وقفوا لهم، ثم تزاحفوا، فاقتتلوا، فلم يسمع الا وقع الحديد على الحديد، وكثرت القتلى من الفريقين، وحال بينهما الليل، فانصرف كل فريق الى معسكرهم، وبات المسلمون لهم أنين من الجراح، ثم أصبحوا، وذلك يوم الأربعاء، فتزاحفوا، واقتتلوا يومهم كله، وصبر الفريقان، ثم كان ذلك دأبهم يوم الخميس، وتزاحفوا يوم الجمعه، وتواقفوا، وركب النعمان بن مقرن برذونا اشهب، ولبس ثيابا بيضاء، وسار بين الصفوف، يذمر المسلمين، ويحضهم، وجعل ينتظر الساعة التي كان الرسول ص يقاتل فيها، ويستنزل النصر، وهي زوال النهار، ومهب الرياح، وسار في الرايات يقول لهم: انى هاز لكم الراية ثلاثا، فان هززتها أول مره فليشد كل رجل منكم حزام فرسه، وليستلم شكته، فإذا هززتها الثانيه فصوبوا رماحكم، وهزوا سيوفكم، فإذا هززتها الثالثه، فكبروا، واحملوا، فانى حامل.
فلما زالت الشمس بأدنى صلوا ركعتين ركعتين، ووقف، ونظر الناس الى الراية، فلما هزها الثالثه كبروا، وحملوا، فانتقضت صفوف الأعاجم، وكان النعمان أول قتيل، فحمله اخوه سويد بن مقرن الى فسطاطه، فخلع ثيابه، فلبسها، وتقلد سيفه، وركب فرسه، فلم يشك اكثر الناس انه النعمان، وثبتوا، يقاتلون عدوهم، ثم انزل الله نصره، وانهزمت الأعاجم، فذهبت على وجوهها، حتى صاروا الى قريه من نهاوند على فرسخين، تسمى دزيزيد فنزلوها لان حصن نهاوند لم يسعهم، واقبل حذيفة بن اليمان، وقد كان تولى الأمر بعد النعمان، حتى اناخ عليهم، فحاصرهم بها.