الظل فقربوه منهم، فكان يمدحهم ويتندر لهم ويضحكهم، وينظم لهم الشعر في المناسبات المختلفة. وكان أكثر هذه الطبقة من أبناء الفلاحين الذين وصلوا بفضل جهودهم إلى المناصب العليا في مرافق الدولة، وكانوا يمتازون بشدة شعورهم بآمال الشعب وآلامه؛ فكان حافظ يجد في صحبتهم لذة، وكانوا يوسعون له في مجالسهم، فكان يروي لهم الشعر القديم وينشئ لهم قصائد فيما ينزعون إليه من وجوه إصلاح. وفي هذه الأثناء كتب "ليالي سطيح" وهي مقالات نثرية على طريقة المقامات، صوَّر فيها على لسان سطيح الكاهن الجاهلي كثيرًا من عيوب الشعب الاجتماعية، متأثرًا في ذلك أوضح التأثر بآراء الشيخ محمد عبده الإصلاحية. وحاول أن يتعلم الفرنسية ولم يتقنها، ومع ذلك ترجم البؤساء لفيكتور هيجو، ولم يستطع أن يترجمها ترجمة دقيقة، فاحتفظ بروحها، وزاد فيها ونقص حسب ذوقه.
وأخيرًا ينقذه في سنة ١٩١١ حشمت "باشا" وزير التربية والتعليم حينئذ من هذه الحياة البائسة، ويعيِّنه في القسم الأدبي بدار الكتب المصرية، ويظل في هذه الوظيفة إلى سنة ١٩٣٢. وأخذت الوظيفة تغلُّ لسانه، فلم يعد ينظم في شئوننا السياسية والاجتماعية كما كان شأنه قبل توظفه، حتى إذا وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها، ورُدت إلينا حريتنا أخذ يعود سيرته الأولى، غير أنه كان -فيما يظهر- يخشى أن يُفْصَل من وظيفته، فلم ينشر كثيرًا مما نظمه في الأحداث السياسية خشية أن يطرد من عمله ويحرم من قوته. وأحيل إلى المعاش في عهد وزارة صدقي "باشا"، وكانت الحريات مكبوتة فنظم كثيرًا من الشعر الثائر، ولكنه لم ينشره على الملأ في الصحف؛ بل ظل يخاف السجن. ومن هنا كان ديوانه لا يشتمل على جميع ما نظمه؛ بل إن جزءًا قيمًا منه -وخاصة في السياسة- ضاع ولم يصل إلينا. على أن القدر لم يمهله بعد خروجه إلى المعاش؛ إذ سرعان ما نعاه الناعون باكين فيه وطنيته ودماثته وتواضعه وسماحة نفسه وجمال عشرته.