قبره، وشهد أقدام الإنجليز تطأ ثرى دياره، والمصريون لاهون عنهم يدقون على "الجازبند" وكأنهم لا يشعرون:
فقال والحسرة ما أشدها ... ليت جدار القبر ما تدهدها
وليت عيني لم تفارق رقدها ... قم نبني يا بنتؤور مادها
مصر فتاتي لم توقر جدها ... دقت وراء مضجعي جازبندها
ويطيل النظر في الأهرام وفي تاريخ مصر القديمة، وما تلبث أن تتراءى الأهرامات في مخيلته ومن حولها الرمال كأنها السواري الباقية من سفينة غارقة، هي سفينة أمجادنا الدائرة:
كأنها ورمالًا حولها التطمت ... سفينة غرقت إلا أساطينا
وتحوط هاتين الخصلتين من الخيال والموسيقى خصلة ثالثة من العاطفة الرقيقة والإحساس المرهف، ويتجلى ذلك في شعره الذي نظمه في ابنته "أمينة" وفي هِرَّته الصغيرة، كما يتجلى في شوقه وحنينه إلى وطنه الذي بثه في قصائده بمنفاه، من مثل قوله في سينيته:
وسلا مصر هل سلا القلب عنها ... أو أسا جرحه الزمان المؤسِّي
وطني لو شغلت بالخلد عنه ... نازعتني إليه في الخلد نفسي
شهد الله لم يغب عن جفوني ... شخصه ساعة ولم يخل حسي
وله في خريف حياته كثير من الأشعار التي يحن فيها إلى شبابه حنينًا فيه لهفة وحرقة، ومن خير ما يصور هذا الحنين قصيدته في "زحلة" بلبنان، وفيها يقول:
شيَّعتُ أحلامي بطرف باكِ ... ولممتُ من طرق الملاح شباكي
ورجعت أدراج الشباب وورده ... أمشي مكانهما على الأشواك
وهذه الخصال الثلاث من العاطفة والخيال والموسيقى ترفع شعر شوقي إلى ذروة الفن وقممه الشمَّاء.