للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فجعلوا أقوى الحرفين لأقوى العيبين، وأضعفهما لأضعفهما١.

وإذا كان علماء العرب قد استشهدوا بالأمثلة السابقة على القيمة التعبيرية للحرف الواحد، وهو صوت بسيط يقع في أول الكلمة تارةًً، وفي وسطها تارةً أخرى، وفي آخرها أحيانًا، فما جاءوا بشواهدهم تلك سدًى، ولا ألقوا بها جزافًا, بل اعتقدوا أن في تقديم ما قُدِّمَ منها، وتأخير ما أُخِّرَ، وترتيبها على نحوٍ معين، أسرارًا مدهشة يعجب الباحث اليوم كيف تنتبهوا إليها واستنبطوها، ويكاد يسلّم لها ولو استشعر فيها الكثير من التكليف.

فهذا ابن جني يؤكد "أن في تقديم ما يضاهي أول الحدث، وتأخير ما يضاهي آخره، وتوسط ما يضاهي أوسطه، سوقًا للحروف على سمت المعنى المقصود، والغرض المطلوب"٢. ويمثل لذلك بالمواد "بَحَثَ" و"صَدَّ" و"جَرَّ" ونكتفي باللفظة الأولى "بحث"، فالباء فيها لغلظها تشبه بصوته خفقة الكف على الأرض، والحاء فيها تشبه مخالب الأسد وبراثن الذئب، ونحوهما إذا غارت في الأرض، والثاء للنفث، والنبث للتراب، وهذا أمر تراه محصلًا، فأي شبهة تبقى بعده؟ أم أيّ شكٍّ يعرض على مثله؟

والآن، فَلْتَخْتَلِطْ هذه الأحرف ولتمتزج، ولتقلَّبْ في تركيب ثلاثي تقالليبها العقيلة الستة المحتملة، ولينظر في النهاية إلى الحرف الواحد من أحرفها، حيثما كان موضعه منها، على أنه صوت ما يزال بسيطًا له دلالته التعبيرية الخاصة، وليستطرف الباحثون ما استنتجه علماؤنا من أمر هذه اللغة التي لا يكاد يعلم بعدها، ولا يحاط


١ نفسه ١/ ٥٥٢.
٢ نفسه ١/ ٥٥٥.

<<  <   >  >>