قواها عن التفلت والانطلاق، ألا وهو مضيق الاشتقاق الكبير الذي سماه هو "الاشتقاق الأكبر".
ففي هذه المضيق يأبى ابن جني على كل تقليب أن يصرخ بأعلى صوته بالمدلول الدقيق الذي تنطوي فيه روحه، ويريده لينطق بالمدلول العام الذي تخضع له سائر التقاليب, وإن الكلمة التي تظل حبيسة في القلب، أو مكبوتة في الحنجرة، لا تجاوز عقدة اللسان، ولا تنفذ إلى الآذان، إلّا لتعبر عن معنًى غير معناه، وتوحي بمدلول عامٍّ يباين مدلولها الذاتي الخاصّ، لهي كلمة ميتة في صورة حية، وما أسرع ما تذهب كأنفاس المحتضر؟
ويبد لنا أن طبيعة الاشتقاق الكبير تقضي بالتجوز في التعبير والإكثار من إخراج الكلام عن ظاهره، والحرص على تلمس الألفاظ العامة، بل الشديدة العموم، لكي تصلح للربط بين صور متعددة, ربما تتلاقى في أشياء، ولكنها أيضًا تتباين في أشياء, وعذر ابن جني وأمثاله من أصحاب هذا الاشتقاق أن ألفاظ اللغة ليست إلّا رموزًا للتفكير، فما أعياها عن تبيان الفروق الدقيقة، وعن مسابقة الشعور!
وعذر آخر لآصحاب الاشتقاق، وهو أنهم كانوا يخلدون أحيانًا إلى هذا الاشتقاق الكبير إذا أشكل عليهم الحرف: الفاء أو العين أو اللام، فيستعينون بتقليب أصول المثال الذي ذلك الحرف فيه, وقد شاهد ابن جني غير مرة شيخه أبا علي الفارسي١ يقلب الأصول لمعرفة بعض المواد،
١ أبو علي الفارسي: هو الحسن بن أحمد بن عبد الغفار، ولد في فسا "من أعمال فارس" وتجوَّلَ في كثير من البلدان، ولا سيما بغداد وحلب, إمام من أئمة العربية، صنَّف في عشرين مجلدًا كتابه "التذكرة في علوم العربية", وله "جواهر النحو", و"الحجة" محطوط أيضًا, "وتعاليق سيبويه", و"المقصور والممدود", و"العوامل". ومن تلامذته المشهورين ابن جني, توفي سنة ٣٧٧هـ. الوفيات ١/ ١٣١، إنباه الرواة ١/ ٢٧٣، تاريخ بغداد ٧/ ٢٧٥.