للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وطليقة لتجاربهم وتأثرهم بمواقفهم النفسية الحافلة بالمشاعر والعواطف. ولذا يغلب عليه الرجز العفوي الحار، الذي يصدر عنهم وهم يستقبلون خصومهم، وكأنهم يدقون طبول الحرب مشجعين لأنفسهم، أو هم يتنادون، كل ينادي قبيلته أو جماعته.

وأكثر هؤلاء الفاتحين المعبرين عن أنفسهم من الجند العاديين، الذين لم يكن متوقعًا منهم أن يعبروا بالشعر عن أنفسهم، ولكنهم أمام روعة الأحداث، والتهاب المشاعر، وجيشان العاطفة لم يملكوا أن يصمتوا، ففاض الشعر على ألسنتهم صادرًا من وجدانهم في عفوية حارة وصادقة، وقد جنت على هؤلاء الشعراء وعلى شعرهم شخصيتهم المنكورة، فاختلط بينهم شعر كثير. ولم ينسب إلى أصحابه قدر كبير منه، فإذا نحن أمام عبارات تتردد لا تحمل دلالة على الشاعر، وإن كانت تجعلنا نشعر أنه شعر شاعر من هؤلاء العاديين من الجند، كـ: قال أحد المسلمين، أو: قال أحدهم، أو: ارتجز راجز، وهكذا.

ولحسن الحظ حفظت لنا الروايات أسماء بعض هؤلاء، من مثل: أبي أحيحة القرشي، وبشر بن ذريح الثعلبي، وعصام بن المقشعر، وبشر بن ربيعة، والأشعث بن عبد الحجر بن سراقة، وجندب بن عمار، وعلياء بن جحش العجلي، والأعرف بن العلم العقيلي، وغيرهم كثيرون. ولعل في أبناء الخنساء الأربعة، وما جاش على ألسنتهم من رجز دافئ في القادسية خير مثال لهؤلاء. وكذلك هؤلاء المحاربون الجرحى الذين اجتمعوا حول نخلة القادسية يناجونها وقد رقت مشاعرهم وهفت نفوسهم إلى أهليهم وديارهم شعرًا بسيطًا معبرًا، وإن ضاعت أسماء بعضهم، فيروى البيت الأول لبجير "كذا"، والآخر لرجل من تميم، والثالث لغيلان، أخي بن ضبة، وهكذا.

وقد أدت ظروف القتال وتشابه ظروفهم وكثرتهم إلى انطماس شخصياتهم فيما يروى لهم من شعر، واختلاط نسبة المقطعات بينهم.

فمثلًا يروي صاحب الأغاني مقطوعة رائعة، تفخر ببلاء صاحبها يوم القادسية على هذا النمط:

أنخت بباب القادسية ناقتي ... وسعد بن وقاص عليَّ أمير

وسعد أمير شره دون خيره ... وخير أمير بالعراق جرير

وعند أمير المؤمنين نوافل ... وعند المثنى فضة وحرير

<<  <   >  >>