للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

على أن هؤلاء الذين يجعلون القصص الشعري ملحمة يجدون في الأدب العربي ما لا ينقضي جماله، من هذا القصص الكثير. ولكنا لا نستطيع أن نعده شعرًا ملحميًّا في قليل أو كثير، كما لا نستطيع أن نقبل أن يكون شعر الحرب -على إطلاقه- من شعر الملاحم كما زعم البعض.

والحقيقة التي لا تقبل الجدل أن العرب لم يحفلوا بالملحمة الشعرية أي احتفال، على الرغم من أننا نجد تاريخهم مملوءًا بالغير والأهوال؛ إذ لم يخلُ في أية حقبة من القتال والنزال من سحيق الجاهلية حتى عصورهم الأخيرة.

وليس يجدي شيئًا أن يلتمس هذا البعض للعرب أعذارًا في عدم احتفالهم بها، كمثل قولهم: إنه لو كان أمر الملاحم الفنية لديهم مألوفًا لورثنا عنهم كثيرًا منها١.

ويبدو هذا الزعم مجانبًا للصواب؛ إذ إن العرب عرفوا الملاحم منذ استهلال العصر العباسي، فقد كان هوميروس وإلياذته معروفين لديهم بعد نهضة الترجمة في المائة الثانية للهجرة٢. ويذكر الشهرستاني عن هوميروس ما يدل على معرفة العرب به؛ إذ يقول: "أوميروس الشاعر من القدماء الكبار الذي يجريه أفلاطون وأرسططاليس في أعلى المراتب، فيستدل بشعره لما كان يجمع فيه من إتقان المعرفة ومتانة الحكمة، وجودة الرأي وجزالة اللفظ، ثم ترجم مقطوعات من أشعاره بجمل معقودة الكلم على المواعظ والحكم، ذيلها بأن الشعر في أمة اليونان كان قبل الفلسفة، وإنما أبدعه أوميروس"٣.

ويذكر القفطي: أن حنين بن إسحاق كان ينشد أشعارًا بالرومية لأوميروس رئيس شعراء الروم٤.

وقد ترجمت الإلياذة إلى السريانية في أيام المهدي، على يد "تيوفيل الرهاوي" غير أن نقل الإلياذة إلى العربية لم يكن هينًا يومئذ؛ لما فيها من أساطير الديانات الإغريقية.

وهكذا لا ينبغي أن نُعنِّت العرب فنطلب إليهم أن يكون لديهم ملحمة شعرية، أو نحاول أن نتصيد لهم ملحمة أو ما يشبه الملحمة، في حين نرى ابن الأثير مثلًا في خاتمة


١ المرجع نفسه ص١٧.
٢ مقدمة ابن خلدون ص٥٢١، "طبقات الأطباء" لابن أبي أصيبعة ج١ ص١٨٤.
٣ "الملل والنحل" بهامش الفصل لابن حزم ج٣ ص١٩.
٤ "أخبار الحكماء" ص١١٩، "تاريخ الحكماء" ص٦٧.

<<  <   >  >>