للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

المثل السائر يتعجب من أنه لا يوجد في اللغة العربية على اتساعها وتشعب فنونها وأغراضها منظومة كالشهنامة، على أن لغة العجم بالنسبة إليها كقطرة في بحرها.

ولعله يبدو في جلاء أن العرب لم يعرفوا هذا الضرب من الشعر، حتى في أوج النهضة الثقافية التي أعقبت حركة الترجمة في العصر العباسي.

ولعل حبهم للقافية الواحدة يجري عليها روي القصيدة زهدهم في الملحمة فيما بعد؛ إذ كانت تقتضي آلاف الأبيات، ومن أين لهم بروي واحد يجري به الكلام إلفًا، زد على ذلك ميل العرب الفطري إلى الإيجاز، وغلوهم في اختصار الكلم، والتزامهم مقاطع الجمل القصيرة التي تحمل غزير المعاني، فكان أن لم يحاولوا -إلا في قليل- زيادة أبيات المطولات على المائة بيت؛ ذلك لأن شعر العرب يفتقر إلى الروية والفكرة، وهم أهل بديهة وارتجال، لا يعنون بالإلمام بطبائع الناس وأحوالهم، كما أنهم لا يحفلون بالتحليل والتطويل، وهم أشد الناس اختصارًا للقول، وأقلهم تعمقًا في البحث، فضلًا عن أن دينهم في بساطته قد حرمهم كثرة الأساطير والخرافات وهي أغزر ينابيع الشعر القصص الملحمي.

ولكن أملًا -بالرغم من كل هذا- لا يزال يداعب بعض الدارسين في أن يقيض الله للأمة العربية شاعرًا يتقدم إلى هذا التاريخ الحافل فيسجله ويصوره؛ ليكون للمعاصرين ولمن يأتي بعدهم كتاب فخر وسفر مجد، يتلوه الأنباء بعد الآباء١.

ويذهب هؤلاء الدارسون بعيدًا في أملهم عندما يقررون: أنه لا بد للأدب العربي من يوم ينهض فيه أقوامه إلى جمع ما تشتت من قصائد الشعراء في وصف الحروب العربية في الفتوح وغيرها، وما لابس ذلك من وشائج الحياة والموت في السلم والحرب، فتؤلف الملحمة الكبرى بعون ذلك الشعر.

وهذا ضرب من الأحلام اللذيذة ليس غير. فالعرب -كما تقدم- لم يعرفوا من فنون الشعر إلا الغنائي منه طوال ماضيهم، حتى إذا كانت العصور الحديثة واتصلوا بالآداب الغربية، وألفوا فنونها من الشعر الملحمي والتمثيلي؛ كانت تلك الفنون الشعرية الكبيرة في سبيلها إلى الانقراض، فحل النثر محل بعضها كالشعر التمثيلي، على حين انتهى شعر الملاحم، ولم يعد يستطيع الحياة، بعد أن تطورت الإنسانية وأصبحت عاجزة عن


١ "شعر الحرب في أدب العرب" ص١٩، في "أصول الأدب" للزيات ص٢٢١.

<<  <   >  >>