للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وهكذا تحاول الروايات دائمًا أن تصور عمرًا كاذبًا، والحقيقة أنه ليس كذلك على طول الخط، وإنما كان يكذب فقط حينما يتفاخر، فيغالي في وصف شجاعته وجرأته. وقد سئل في ذلك خلف الأحمر فقال: كان عمرو يكذب باللسان ويصدق بالفعال١.

ويبدو أنه بعدما تخلص من لقب المائق تخلص من بعض غروره وتهوره أيضًا، فقد بدأ بذلك حياة جديدة. ويروى أن الصمة بن بكر أغار على قومه فاستاق إبلهم، وسبى -فيمن سبى- أخت عمرو، وكانت تُدعى ريحانة، فتبعه عمرو، ومعه أخوه عبد الله، وفي الطريق رجع عبد الله وتبعه عمرو وحده يناشده أن يخلي عن أخته فلم يستجب له، ولما يئس رجع وهي تناديه بأعلى صوتها: يا عمرو، وهو يقول وصوتها يرن في أذنه:

أمن ريحانة الداعي السميع ... يؤرقني وأصحاب هجوع

سباها الصمة الجشمي غصبا ... كأن بياض غرتها صديع

وحالت دونها فرسان قيس ... تكشف عن سواعدها الدروع

إذا لم تستطع شيئًا فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع٢

ويذكر أن ربيعة بن مكدوم، أحد فرسان العرب المشهورين طعن عمرًا ذات مرة فألقاه عن فرسه وأخذه، ثم لقيه مرة أخرى فضربه، فوقعت الضربة في قربوس فرسه فقطعته، حتى عض السيف بجسد الفرس، فلم يكن من عمرو إلا أن سالمه وتركه وانصرف٣. فلا عجب إذا رأينا هذا الفارس المقدام يتحدث عن فراره ونجاته، حذر الموت تعقلًا منه، وإيثارًا للسلام، فيقول:

ولقد أجمع رجلي بها ... حذر الموت وإني لفرور

ولقد أعطفها كارهة ... حين للنفس عن الموت هرير

كل ذلك مني خلق ... ولكل أنا في الروع جدير٤


١ نفس المرجع.
٢ الأغاني ١٤، ص٣١.
٣ نفس المرجع.
٤ ابن قتيبة ج١، ص٣٣٤.

<<  <   >  >>