وعندما استعان فيروز بأبي بكر على قيس بن يغوث وعزز أبو بكر مكانته راح قيس وعمرو يعيثان في البلاد فسادًا. ولكنهما لم يلبثا أن تخاصما وتهاجيا. وأدركهما مجيء المهاجر، وأيقن أهل اليمن جميعًا أن ثورتهم مقضي عليها لا محالة، فانتهز عمرو الفرصة كدأبه، وأراد أن ينجو بنفسه فهاجم حليفه، الذي كان متفقًا معه على لقاء المهاجر، وأخذه إليه أسيرًا، وعند ذلك قبض المهاجر عليهما معًا، وبعث بهما إلى أبي بكر ليرى فيهما رأيه، بعد أن أخذ سيفه المسمى بالصمصامة وأوثقه.
ونظر الصديق إلى عمرو وقال له:"أما تخزى أنك كل يوم مهزوم أو مأسور، ولو نصرت هذا الدين لرفعك الله؟ " فقال عمرو: "لا جرم لأفعلن، ولن أعود". فأخلى أبو بكر سبيله وردَّه إلى عشيرته؛ ليعود بعد ذلك إلى المدينة حيث يسيره الخليفة إلى الشام١.
وقد ميزت هذه الخلة الانتهازية في طباع عمرو أخلاقه جميعها، فإذا هو نفعي ونهاز، وترتيب على ذلك رقة دينه التي لازمته طول حياته، فلم يكن له من دينه ما ينهاه عن المحرمات في الإسلام. ويروى عنه في هذا الصدد أن صديقه عيينة بن حصن نزل عليه زائرًا في محلة زبيد، بعد بناء الكوفة، وكان عيينة نديم شرابه في الجاهلية، فوقف ينادي ببابه:"أي أبا ثور، اخرج إلينا"، فخرج إليه مؤتزرًا مرحبًا بقوله:"أنعم صباحًا أبا مالك"، فقال عيينة:"أوليس قد أبدلنا الله تعالى بهذا السلام عليكم؟ " فقال عمرو: "دعنا مما لا نعرف، انزل فإن عندي كبشًا سياحًا" فنزل، وعمد عمرو إلى الكبش فذبحه، وألقاه في قدر وطبخه، حتى إذا نضج جاء بجفنة عظيمة، فثرد فيها، وأكفأ القدر عليها، فقعدا فأكلاه. ثم قال لضيفه:"أتشرب اللبن، أم ما كنا نتنادم عليه في الجاهلية؟ " قال عيينة: "أوليس قد حرمها الله عز وجل علينا في الإسلام؟ " قال عمرو: "أنت أكبر سنًّا أم أنا؟ " قال: "أنت"، قال:"فأنت أقدم إسلامًا أم أنا؟ " قال: "أنت"، قال:"فإني قد قرأت ما بين دفتي المصحف فما وجدت لها تحريمًا، إلا أنه قال: فهل أنتم منتهون؟ فقلنا: لا، فسكت وسكتنا". فقال عيينة:"أنت أكبر سنًّا وأقدم إسلامًا"، فجلسا يتناشدان ويشربان، ويتذاكران أيام الجاهلية حتى أمسيا، فلما أراد عيينة الانصراف قال