للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

عمرو: "لئن انصرف أبو مالك بغير عطاء إنها لوصمة عار"، فأمر بناقة عظيمة له، وبأربعة آلاف درهم، ورفض عيينة المال، وأخذ الناقة وانصرف عليها ينشد:

جزيت أبا ثور جزاء كرامة ... فنعم الفتى المزدار والمتضيف

قريت فأكرمت القرى وأفدتنا ... تحية علم لم تكن قط تعرف

وقلت: حلال أن ندير مدامة ... كلون انعقاق البرق والليل مسدف

وقدمت فيها حجة عربية ... ترد إلى الإنصاف من ليس ينصف

وأنت لنا -والله ذي العرش- قدوة ... إذا صدنا عن شربها المتكلف

يقول أبو ثور: أحل حرامها ... وقول أبي ثور أسد وأعرف١

وهكذا يؤكد أن الإسلام لم يتعمق روحه، كما لم يعن هو بتعمقه، فظل على الخمر والتنادم عليها بذكر أيام الجاهلية وما يعرف ويألف من كلماتها، في الوقت الذي يرفض فيه تحية الإسلام التي لا يألفها. ثم هو ينتحل على الدين فتوى يحلل بها حرامًا بغير تحرج متظرفًا، وكأنما يخدع نفسه.

وربما نتساءل عن السبب الذي من أجله أبقى عليه المهاجر فلم يقتله، وهو أحد رءوس الفتنة في ثورة اليمن وارتداد أهله، وعن السبب الذي من أجله أبقى عليه الصديق كذلك. فلا ريب في أن المهاجر خشي ما قد يترتب عليه قتله لعمرو، وهو يعرف مكانته في قومه. ولا ريب أيضًا في أن أبا بكر رأى بثاقب رأيه ما يمكن أن يحققه عمرو إذا ما كان سيفًا من سيوف الإسلام، وتجلى ذلك في معاتبته، ودعوته الصريحة إلى نصرة دين الله.

وبرغم أن عمرًا أبلى في نصرة هذا الدين بلاء رائعًا، فقد ظل رقيق الدين طوال حياته، لا يرجع عن اتباع هواه، ولا يرتدع، فظل يعاقر الخمر، ولكن ذلك لم يكن ليسلبه قدره في الانتصار للدين، حتى ليقول عنه سعد بن أبي وقاص حينما وقع في حد الخمر ذات مرة: "لقد كان له يوم القادسية موطن صيم الفناء شديد النكاية للعدو" فقيل لسعد: فقيس بن مكشوح، فقال: "هذا أبذل لنفسه من قيس"٢.


١ الأغاني ج١٤، ص٢٩.
٢ الأغاني ج١٤، ص٣١.

<<  <   >  >>