للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولم يكن عمرو شديد النكاية بالعدو لقوة إيمانه بالإسلام، ولا لاعتقاده بوجوب الذب عنه، واكتساب أرض جديدة له، ولدعوة العالمين إليه. وإنما كان قوي الإيمان بنفسه فحسب، مخلصًا لماضيه وحده، ولبطولاته السابقة، فهو حينما يبذل نفسه لا يبذلها من أجل العقيدة أو الفكرة، وإنما من أجل مجده الشخصي، ومن أجل اسمه الذي لا يزال يتضوأ بمغامراته في الجاهلية، فإذا به يعتز بهذا الماضي اعتزازًا بعيدًا، يصور ذلك قوله:

وليس يعاب المرء من جبن يومه ... إذا عرفت عنه الشجاعة بالأمس

ولا ريب في أن ولاة أمور المسلمين قد عرفوا عنه هذا، فظلوا على تألفه واصطناعه، وإن كانت ثقتهم به غير متينة؛ لأنهم أيقنوا فيه أنه ربما لا يخلص في نصرة الدين، ولكنه لا يفرط في الإخلاص لنفسه ولاسمه، مهما كان ضعف إيمانه.

ولهذا نرى ابن الخطاب رضي الله عنه يكتب إلى النعمان بن مقرن في نهاوند بأن يستشيره في كل أمور الحرب على ألا يوليه عملًا١. ونراه في القادسية وسعد يقسم الفيء فيصل عطاء الفارس ستة آلاف يقبضها عمرو، ثم يزيده سعد في أهل البلاء خمسمائة، ولكنه لا يقنع؛ إذ تبقى بعد ذلك شيء كثير، رأى سعد أن يرسل به إلى المدينة ليسأل الخليفة عما يفعل به، فيرد عمر: "بأن رد على المسلمين الخمس، وأعط من لحق بك ولم يشهد الواقعة"، ونفذ سعد أمر عمر، فبقي لديه ما اضطره أن يبعث إلى عمر يسأله عما يفعل به، فأمر عمر بأن يوزع في حملة القرآن. كل هذا وعمرو يتململ. وبينما سعد ينفذ أمر الخليفة إذ أتاه عمرو طامعًا في أن يكون له حظ مع حملة القرآن. وسأله سعد: ما معك من كتاب الله تعالى؟ فحك عمرو رأسه ثم أجاب بعد لحظات: إني أسلمت باليمن ثم غزوت، فشغلت عن حفظ القرآن، عند ذلك أبَى سعد أن يجعل له من مال الحفاظ نصيبًا، فإذا عمرو يقول:

إذا قتلنا ولا يبكي لنا أحد ... قالت قريش: ألا تلك المقادير

نعطى السوية من طعن له نفذ ... ولا سوية إذا تعطى الدنانير٢


١ ذيل الأغاني ج١، ص١٤٤.
٢ الأغاني ج١٤، ص٣٩.

<<  <   >  >>