للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

دمائه، وكان صادق الحملة على الأعداء، فإذا به ينقلب وحشًا ضاريًا، يطيح برءوس الفرس بسيفه من غير أن يستأذن سعدًا الذي راح يقول: "اللهم اغفرها له وانصره، فقد أذنت له وإن لم يستأذني"١. ولحقت بالقعقاع القبائل، فحملت خلفه، وظلت أصوات الفرسان عالية حتى تقدم الليل فخفتت. وسيطرت قعقعة السلاح على الأسماع، بات الجيشان يقتتلان أعنف قتال وأقساه. والحرب تدور حول القعقاع وهو يرتجز ويسير في الناس قائلًا: إن الدائرة بعد ساعة لمن بدأ القوم، فاصبروا ساعة واحملوا، فإن النصر مع الصبر، حتى كان النصر، فتابع المنهزمين في جنده يأسرون من نجا من القتل.

وها هو في جند سعد، وقد وقف نهر دجلة يحول بينهم وبين المدائن، وهم ينظرون إلى تدافع مياهه، ويأتي ببعض الفرسان يسألهم: كيف العبور؟ فدلوه على مخاضة في النهر تخاض إلى صلب الوادي؛ لكنه خشي عادية التيار على جنده، فلما أتاه النبأ بأن يزدجرد حمل خزائنه إلى حلوان جمع الجند، وراح يدعوهم إلى العبور، وانتدب حامية تحمي الجند من ذوي البأس، وكان أول من انتدب عاصم بن عمرو ومعه ستون نفرًا، وهو يصرخ فيهم: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا} واقتحم النهر وزملاؤه معه. فلما رأى القعقاع الفرسان يتقدمون في سبحهم مد بصره فرأى الفرس يتهيئون للقائهم فسرعان ما انتدب ستمائة دفع بهم إلى النهر، والفرس مذهولون يقولون: إنكم لا تقاتلون إنسًا، وبعد أن دخل المسلمون المدينة طارد القعقاع بن عمرو فارسيًّا فقتله وأخذ منه عيبتين، فيهما أسياف وأدراع لكسرى، وهرقل، ولخاقان الترك، ولموك آخرين٢.

ثم ها هو بعد ذلك يعينه الخليفة عمر باسمه على مقدمة هاشم بن عتبة ليأتي جلولاء، وقد تحصن الفرس بها مستميتين في الدفاع عنها، فحاصرها المسلمون ثمانين يومًا، والأمداد تأتي إليهم من المدائن، وتأتي إلى الفرس من جلولاء، وكان الفرس يخرجون ليزاحفوا المسلمين متى شاءوا ثم يعودون إلى حصونهم منهزمين. وأيقن الفرس أنهم سائرون إلى الهزيمة لو استمر الأمر هكذا، ورأوا أن يباغتوا المسلمين. وذات يوم


١ الطبري ج٥، ص٢٢٣٢.
٢ الإصابة ج٥، ص٢٤٥.

<<  <   >  >>