للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الشعر، وليس له قالب مستقل بذاته، إلا أننا نميل إلى جعله نوعًا مستقلًّا من أنواع التعبير؛ لمخالفته للشعر في شكله العام، وفي اقتصاره على أبواب معينة وموضوعات بذاتها، فضلًا عن تميزه بدور كبير في ظروف القتال، لم يتسن للشعر، في التحميس ورفع روح المحاربين، إلى جانب أن الرجز لسهولته وقربه من السليقة العربية كان سبيل الشعراء المغمورين، الذين أنطقتهم الفتوح، وهم كثرة كثيرة. بينما كان شعر القصيد سبيل الممتازين من الشعراء، وإن كان لم يحتفظ بخصائص الشعر العربي التقليدية، فأضحى مقطعات قصيرة قليلة عدد الأبيات.

وفي الحقيقة: إن شعراء الفتوح جميعًا قد خضعوا خضوعًا متماثلًا للطوابع التي طبعت بها الفتوح شعرهم جميعًا، ففضلًا عن تركز اهتماماتهم ونوازعهم في المسئولية الضخمة التي يحملونها، فإن ظروف القتال وقسوة الحياة تحت ظلال السيوف لم تكن لتعينهم على التنفس الغنائي الهادي، والتعبير الوجداني المنساب، في قصائد متأنية مديدة النفس.

ولهذا كان تنفسهم سريعًا لاهثًا ومتلاحقًا، وخاطفًا ومحدودًا في مضمونه وفي شكله بطبيعة الحال، فاتخذ القريض شكل المقطعات القصيرة. واستتبع هذه الإحاطة بمقدمات القصائد التي تعتبر من أهم تقاليد الشعر العربي، الموروثة عن العصر الجاهلي، والتي ظلت تحكم الشعر ردحًا من الزمان، ولم تفلح الثورات الأدبية في الإطاحة بها بعد ذلك.

ومهما كان رأي الباحثين في هذه المقدمات الطللية والغزلية من أنها ترتفع بالشاعر إلى بيئة شعرية رفيعة يخرج فيها عن أطوار الحياة الواقعية المادية إلى عواطف الحنين والشوق مما يعده للغناء١، فإن الشاعر كان يجد فيها بلا ريب متنفسًا للحديث عن ذاته، وإشباعًا لمنازعه الفردية، قبل أن يشغل بغرضه الذي كان ينصرف دائمًا إلى الفناء في وجدان القبيلة بحكم وضعه الاجتماعي.

والأمر مختلف في الفتوح، فليس هناك ما يدعو إلى أن يختلق الشاعر في مقدمات قصيده، ما يكون مسربًا لفرديته؛ إذ ليس هناك حرج في أن يشيد الشاعر


١ حديث الأربعاء ج١، ص٢٢.

<<  <   >  >>