للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بذاته، ويعبر عن فرديته داخل إطار الجماعة الإسلامية تعبيرًا حرًّا، دون النجاء إلى المقدمات التي لا بد أن تشغله في مثل هذه الظروف المضطربة السريعة الأحداث عن التعبير المباشر.

وكما تخفف شعر الفتح من المقدمة الغزلية والطللية تخفف بالضرورة من النظام التقليدي للقصيدة الذي ساد في الشعر العربي، وأوصى نقدته باتباعه والتمسك به قرونًا. هذا النظام الذي يوجب تعدد الأغراض في القصيدة الواحدة، فتبدأ بذكر الأطلال، ثم ينتقل الشاعر منه إلى النسيب فوصف رحلته وما يعترضه فيها، ويصف ناقته إلى تقله، ويشبهها بما يشاء من الحيوان، حتى يصل إلى غرضه من المدح أو غيره.

وذهب بعض نقاد العرب مذهبًا متعسفًا في تعليل حسن هذا النظام والدعوة إليه من ثم والتوصية بالتمسك به والمحافظة عليه، ففى رأيهم أن مقصد القصيد إنما ابتدأ بذكر الديار والدمن والآثار، فبكى وشكا، وخاطب الربع والدمن والآثار؛ ليجعل ذلك سببًا لذكر أهلها الظاعنين عنها؛ إذ كانت نازلة العمد في الحلول والظعن على خلاف ما عليه نازلة المدر؛ لانتقالهم من ماء إلى ماء، وانتجاعهم الكلأ، وتتبعهم الغيث حيث كان، ثم وصل ذلك بالنسيب فشكا شدة الوجد وألم الفراق، وفرط الشوق والصبابة؛ ليميل نحوه القلوب، ويصرف إليه الوجوه، ويستدعي به إصغاء السامح إليه؛ لأن التشبيب قريب من النفوس، لائط بالقلوب؛ لما قد جعل الله في تركيب العباد من محبة الغزل وإلف النساء، فليس أحد يخلو من أن يكون متعلقًا منه بسبب، أو ضاربًا فيه بسهم، حلال أو حرام. فإذا علم أنه استوثق من الإصغاء إليه والاستماع عقب بإيجاب الحقوق، فرحل في شعره، وشكا النصب، والسهر، وسرى الليل، وحر الهجير، وإنضاء الراحلة والبعير. فإذا علم أنه قد أوجب على صاحبه حق الرجاء وذمامة التأميل، وقرر عنده ما ناله من المكاره في السير بدأ في المدح، فبعثه على المكافأة، وهزه للسماح، وفضله على الأشباه، وصغر في قدره الجزيل١.

ومن ثم يلزم هؤلاء النقاد الشعراء بأن يسلكوا تلك الأساليب لا يتعدونها، وأن يعدلوا بين أقسامها، ولكن أنَّى للشاعر المحارب في أي زمان ومكان أن يصنع هذا، وأن


١ الشعر والشعراء ج١، ص٢١.

<<  <   >  >>