تمييز نظر إليها طويلًا، ثم قال لحامله: أرحني تحت ظل هذه النخلة، فيرتاح تحتها برهة، يترنم فيها ببيت من الشعر يتمنى فيه السلامة لها، وكأنه يخاطب نفسه فيها؛ إذ لم يجد أهله وأحباءه حوله يقولون له هذه الكلمة فيخففون بها بعض ما به من ألم. ويذكر وحدة النخلة، وكأنه يعبر بذلك عن غربته، مثل هذه النخلة التي لا يجاورها نخل فيقول:
ألا فاسلمي يا نخلة بين قادس ... وبين العذيب لا يجاورك النخل
فإذا بجريح آخر يقول:
ألا يا اسلمي يا نخلة بين جرعة ... يجاورك الجمان دونك والرغل
أيا نخلة الركبان لازلت فانضري ... ولا زال في أكناف جرعائك النخل
فيرد عوف بن مالك التميمي:
أيا نخلة دون العذيب بتلعة ... سقيت الغوادي المدجنات من النخل١
وموضوع الحنين على هذه الصورة باب رائع من أبواب الشعر الإسلامي، ذلك أنه يلتف في نطاق وجداني رفيق، تنسكب فيه أعمق المشاعر العاطفية في تدفق وحرارة وصدق.
ونحن لا نعرف لهذا الشعر شبيهًا يقابله في شعر الجاهلية على كثرة ما كان من ظعنهم ورحيلهم إلا ما كان يعرف من بكاء الأطلال. وفي اعتقادنا أن وجود هذا الضرب من الشعر في الفتوح يعلل اختفاء المقدمات من هذا الشعر، إلى جانب ما أسلفناه من أسباب في تعليل هذه الظاهرة. وربما يعلل وجود هذا اللون أيضًا ما أخذ يشيع بعد استقرار المجتمع الإسلامي وبسط سلطانه على الأمصار المفتوحة من غزل رقيق عذري، متطور عن هذا اللون من شعر الحنين الحزين الشجي.
١ المسعودي، مروج الذهب ج٢، ص٢٠٩، الطبري ج٥، ٢٣١٧، ٢٣١٨.