للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ونسبة الشعر إلى الجن في هذه الرواية ليست أول مرة من نوعها؛ إذ إن العرب -وبخاصة الأعراب والرواة- قد لهوا بعد الإسلام بتسمية الشياطين الذين كانوا يلهمون الشعراء قبل النبوة وبعدها، وشجعهم على هذا ما في القرآن من آيات تنبئ بأن الجن قد استمعوا للنبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن فلانت قلوبهم، وآمنوا بالله ورسوله، وعادوا فأنذروا قومهم ودعوهم إلى دينه، وأنهم كانوا يصعدون في السماء يسترقون السمع فرجموا بالشهب، وانقطعت أخبار السماء عن أهل الأرض؛ ولهذا راح الرواة والقصاص يستغلون هذه المعاني لخدمة أغراضهم، فزعموا -من قبل- أن الجن قتلت سعد بن عبادة الأنصاري الذي لم يذعن لقريش، ولم يؤمن بأحقيتها في الخلافة دون الأنصار. وزعموا أيضًا أن الجن قالت في قتله غيلة بأحد أسفاره شعرًا. وكذلك نطقت الجن بشعر في رثاء عمر بن الخطاب، ينسبه بعض الرواة إلى الشماخ بن ضرار وأخويه مزرد وجزء١.

لا غرابة إذن في نسبة الشعر إلى الجن، وإنما الذي يستحق النظر وهو ما تؤكده الرواية من أنه قد سمع بمثل هذا الغناء في كافة بلاد العرب. وهذا -في حد ذاته- كفيل بأن يلفتنا إلى مدى توقع المسلمين والعرب عامة للنتائج التي يمكن أن تتمخض عنها القادسية؛ إذ كان العرب يتوقعونها من العذيب إلى عدن، وما بين الأبلة وأيلة٢، الأمر الذي يؤكد لنا صدور الأبيات في أعقاب المعركة، وأنها لم تنحل على أيدي الرواة، وإنما أطلقتها القبائل بدافع المفاخرة فيما بينها.

وتظهر الطوابع الشعبية واضحة في رواية هذه الأبيات على لسان الجن وتغنيها بها وسماع بلاد العرب كلها هذا الغناء، وتصور أن الجن سارت بأنباء القادسية إلى أهل الجزيرة، فسبقت إليهم نفرًا من الإنس، مما يكشف عن تصور شعبي متأثر بقواعد معينة، يخضع لها تفكير العامة عند معظم الشعوب الأولى؛ كحكايات المردة، وأساطير لقمان وصقوره، وغير ذلك من المتوارثات الشعبية، فضلًا عما بالقرآن من أحاديث الجن. وهذه كلها أشياء مهمة لدراسة الأدب الشعبي، عن طريق محاولة التعرف على نفسية الشعب وثقافته في الآونة التي وضع فيها الشعر في هذا الاتجاه.


١ في الأدب الجاهلي ١٧٠.
٢ الطبري ٥/ ٢٣٦٤.

<<  <   >  >>