للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أيدي الروم لم تقضِ عليها، ولم تؤد بها إلى الانهيار، ولم تدفع العرب إلى الانقضاض عليها وإدخالها مثخنة بالجراح إلى حظيرة الإسلام كما يزعم البعض١، فقد كان لها بعد كل هذا جيوشها الجرارة، ونظامها وسلطانها. فإن كسرى أنوشروان الذي ولد لأول عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان قد جعل هدفه تجديد شباب الدولة الساسانية، فمضى في سلسلة من الإصلاحات، تناولت شتى النظم الإدارية والمالية والعسكرية. ورد إلى الدولة الساسانية شبابها، فاستطاعت أن تنتزع من الإمبراطورية الرومية آسيا الصغرى وأرمينيا والشام، ونجحت في أن تلطم العالم المسيحي لطمة قاسية بإدخالها بيت المقدس في حوزة الوثنيين، واستيلائها على صليب الصلبوت، كما استولت على مصر، وبلغ الأمر بها أن هددت أبواب القسطنطينية ذاتها٢.

وحتى لو فرضنا أن الدولة الفارسية انهارت على يدي "هرقل"، ألم يكن أقرب إلى المنطق والعقل أن يلتهمها الروم أنفسهم، الذين طرقوا أبواب عاصمتها "المدائن" بعد هزيمتها المنكرة في نينوى، وإرغامها على صلح مشين في ٦٢٨م بطريقة أسهل من استيلاء العرب عليها، إذا ما قارنا بين حالة الروم وحالة العرب وقتذاك؟!

لا ريب في أن أبا بكر كان يقدر قوة الفرس ومبلغ سلطانهم على الجنوب وأثره في فتنة العرب، وأنه ليفكر ويقدر في موقف المسلمين من هاتين القوتين دون أن يجرؤ على التفكير في حربهما؛ إذ تترامى إليه الأنباء بأن المثنى بن حارثة الشيباني قد سار بقواته شمالًا في البحرين حتى وضع يده على القطيف وهجر، وحتى بلغ مصب دجلة والفرات، وأنه قضى في مسيرته على الفرس وعمالهم، ممن عاونوا المرتدين بالبحرين، وأنه تابع مسيره مساحلًا الخليج الفارسي إلى الشمال، حتى نزل في قبائل العرب الذين يقيمون بدلتا النهرين، فتحدث إليهم وتعاهد معهم.

وفكر أبو بكر فيما جاءه من أنباء، فإذا به يفكر من ثم في دفع المسلمين إلى خارج شبه الجزيرة، حتى يصرفهم عن ثاراتهم الأولى، فربما ينجح المثنى في التوغل إلى العراق، فيفتح للمسلمين المتعطشين إلى الجهاد أبوابه. وبدأت عناصر نجاح هذا التدبير تتداعَى إلى


١ انظر الدولة الإسلامية وإمبراطورية الروم، العدوي ص٤٢.
٢ نفس المرجع، ص٣٢.

<<  <   >  >>