للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

خاطره، وقبائل العرب في العراق من بني لخم وتغلب وإياد والنمر وبني شيبان تهوى نفوسهم إلى منابتهم في شبه الجزيرة، ولم تبعد أنسابهم بعد عن أنسابها. وبرغم أن أكثر هذه القبائل قد نعم بالحضر وترفه إلا أنها ظلت شديدة التعلق بالبادية تسكن مشارفها، وهي في هذا لا تستطيع مقاومة الوراثة البدوية المتغلغلة في نفوسها، التي تأبى الاستقرار والركون إلى حياة الحضر الوادعة، فسكنت على شفا الصحراء، بين البادية والحضر، لتجد في الحضر رزقها، وفي البادية ما يستهويها من الحرية والسحر والجمال.

وتردد فيما جاءت به أنباء المثنى أن قبائل العرب التي استقرت بدلتا النهرين، الغنية بالزروع والفاكهة والطير والحيوان، مالت إلى الحضر والإقامة فعمل أبناؤها في زراعة الأرض، وأن دهاقين الفرس يستولون على غلاتها، فلا ينال أولئك العرب منها إلا القليل الذي يجود به الدهاقين عليهم، مما يجعلهم أدنى إلى الاستجابة لكل دعوة عربية. فمعاملة الدهاقين تعدهم للثورة بهم، وتمهد للمسلمين أن يستخدموهم أدوات لبث دعوتهم، وتأمين شبه الجزيرة من دسائس الفرس وعدوانهم.

هذا فضلًا عن أن بطونا من ربيعة ومضر استقرت في سواد العراق والجزيرة، فصارت لهم هناك ديار ومراعٍ، ونزلوا على خفارة فارس١. وكذلك استقرت قبيلة تنوخ غربي نهر الفرات من الحدود الفارسية، حتى أنشأ لهم سابور الأول ملك الفرس إمارة الحيرة عام ٢٤٠م، وأمر عليها عمرو بن عدي؛ لتكون هذه الإمارة درعًا يكفي دولة فارس من وراءها من الروم والأعراب، ولكن هذه العلاقة الوطيدة بين العرب والفرس لم تمنع القبائل العربية من الإحساس بعصبيتها وتوحدها ضد الفرس في يوم ذي قار٢.

فالعراق إذن لم يكن يومًا ما غريبًا عن عرب الجزيرة، بل كان دائمًا امتدادًا لمنازلهم، ودار هجرة لهم، يجتذبهم إليه بخصبه واستقرار الحياة فيه، ويجوسون خلاله في معاناة التجارة وخفارتها، ويجدون في رحيلهم إلى الشرق والغرب فرصة مواتية للاختلاط بسكان هذه المناطق، اختلاطًا يتعدى الناحية الاقتصادية إلى التأثير والتأثر، وتعميق المعرفة بأحوالهم وبظروف حياتهم، وكان في أسواق العرب مجال لاختلاط التجار العرب


١ المسالك والممالك ص١٨.
٢ العقد الفريد ج٢، ص٨١.

<<  <   >  >>