وأرض الشام تعتبر امتدادًا لشمالي شبه الجزيرة العربية، مما دعا عرب الشمال إلى اتخاذها دار هجرة؛ إذ إن طبيعة بلادهم كانت السبب في الدفع بهم إلى الاحتكاك بمن يصاقبونهم، والزحف وراء المناطق الخصبة التي تلي بلادهم شمالًا على أطراف الهلال الخصيب، انتهازًا للإغارة على بلدانه والتسلل إليها؛ حيث ينعمون بالخصب والخير، فلم تكن الهجرات إلى الشام تنقطع عبر الزمن. وأشهر هذه الهجرات ما حدث بعد زوال السيطرة التجارية لليمن؛ إذ ساءت أحوالها الاقتصادية، وتلا ذلك تصدع سد مأرب العظيم، فاتجهت القبائل المهاجرة تزحف إلى الشام، كما فعلت جهينة وكلب وقضاعة التي نزلت بالبادية، وعاملة وجذام اللتان نزلتا في حدود فلسطين، وغسان التي استقرت في منطقة حوران في شمال بلاد العرب.
ورأى الروم في هذه القبيلة مثلما رأى الفرس في لخم، واستعانوا بها في تأسيس إمارة تضمن لهم الدفاع عن حدودهم ضد هجمات الفرس والقبائل العربية، التي تحترف الإغارة والسلب. واتسمت العلاقة بين الروم والغساسنة بالتأرجح؛ بسبب عوامل الكبت والتضييق التي انتهجها الروم مع حلفائهم وصنائعهم، إثر إثارة مشكلة الخلاف المذهبي بينهم، فقد اعتنق الغساسنة المذهب المونوفيزيتي، بينما كان سادتهم يدينون بالملكانية، فتعرض غير أمير منهم للسجن والاضطهاد، كما حدث للمنذر بن الحارث الذي غدروا به ونفوه إلى صقلية١.
وكانت إمارة الغساسنة معبرًا لكثير من التأثيرات العقلية والحضارية، عبرت عن طريقها إلى العرب، ووفد إليها من شعرائهم في الجاهلية من كانوا يجدون في أمرائها أهلًا لمدائحهم ومنادمتهم؛ كالنابغة الذبياني وعلقمة وحسان بن ثابت. وترك هؤلاء الأمراء في الأدب العربي فضلًا عن هذا آثارًا قصصية وأسطورية؛ كالتي تُروى عن دروع امرئ القيس، ومنادمات حسان لجبلة بن الأيهم وغير ذلك.
وعندما تبلورت زعامة مكة لشبه الجزيرة العربية، وتبوأت مركز الصدارة على سائر مدن الحجاز، وسيطرت على مقدراتها، واستحقت لقب أم القرى ببيتها العتيق الذي يفد إليه كل العرب من كل صوب، أخذت مكة تنظم التجارة، وتستعيد للعرب السيطرة على