للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

طرقها بين اليمن والشام، فنظم هاشم رحلاتها، وعقد مع الدول والممالك المجاورة للحجاز معاهدات ومحالفات، كتلك التي عقدها مع الروم والغساسنة، وأصبح لقريش بمقتضاها حق التجوال في الشام١. وبطبيعة الحال أفاد العرب من هذه الصلات التجارية الشيء الكثير. ولا بد أن يكون منهم من ثقف لغة عملائهم بالضرورة، فقد كان التجار من رؤساء العرب وكبرائهم، وأجدرهم بنقل مدينة الروم وحضارتهم وطرق معيشتهم وأخبارهم.

ولما بدأ الصراع بين دولتي الفرس والروم في مستهل القرن السابع الميلادي كان العرب يتابعون أحداث هذا الصراع المرير وتطوراته، وظهور إحداهما على الأخرى. وملأت أصداء هذه الأحداث بلاد العرب بفضل الطريق التجاري، الممتد بين اليمن وفلسطين وسوريا ومصر. فكان العرب يقفون على أخبارها أولًا بأول. وأخذ المسلمون يظهرون أمام المشركين الذين كانوا يقفون بعواطفهم إلى جانب الفرس الوثنيين ضد الروم بوصفهم أصحاب كتاب كالمسلمين بمظهر الآمل في انتصار الروم، وأنهم المظفرون في هذا الصراع عما قريب.

ولم تكن أنباء الصراع هي كل ما يثير اهتمام المسلمين، وإنما يبدو أنهم كانوا يقفون أيضًا على حوادث الاضطهاد والتعذيب التي أخذت ترزح تحتها البلدان الخاضعة لحكم الروم، من جراء فرض "هرقل" مذهبه الجديد، الذي يدعو إلى التوفيق بين الملكانيين واليعاقبة، محاولًا بشتى الوسائل حمل رعاياه عليه؛ ليقضي على عوامل الفرقة المذهبية التي كان يخشى اتخاذها ذريعة للانفصال عن جسم الدولة الرومية، ولكن النتيجة كانت عكس ما تصور "هرقل".

فوقف أتباع المذهبين المختلفين موقفًا واحدًا ضده، ورفضوا الدخول في مذهبه الذي عدوه زيفًا وتضليلًا، فاشتعلت نيران الفتنة. وانتشرت حركات التمرد والمقاومة السرية. ولم يتمكن هرقل من إخمادها بوسائل العنف والقهر والقمع، وبات الناس في أقاليم الدولة يتمنون من أعماقهم زوال حكم الروم عنهم؛ ليحرروا عقائدهم وأرزاقهم من قهرهم.


١ الطبري ج٣ ص١٠٨٩.

<<  <   >  >>