للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

تردده، فلو قنع المسلمون بموقفهم لحسبهم أعداؤهم تضعضعوا تحت وطأة الوباء والجوع، ولهاجموهم في الشام عن طريق مصر، أما إذا نهد لهم المسلمون في مصر ذاتها وقفوا موقف المدافع، وتعطلت سياسة الهجوم تمامًا. ولا بد أن ابن العاص قد أفاض في تزيين الفتح لأمير المؤمنين إفاضة العليم بمصر ومدنها وطرقها وحصونها، لما أتيح له من زيارتها، وما استخلصه من أسرى الروم الذين يعرفونها حق المعرفة. فمصر ولاية غنية بطبيعتها وثرواتها، تسيطر على منافذ العالم المعروف كله، وهي مركز تجارته، وأساطيلها التجارية تشق عباب البحرين من أقدم العصور إلى الجنوب من بلاد العرب، تحمل إليه التجارة، وتجيء منه بمختلف السلع، وتتصل عن طريق سيناء بطريق القوافل المنحدر إلى مكة واليمن. وهذا الاتصال أتاح احتكاكًا مباشرًا بين العرب وأهل مصر، وأدى إلى استقرار عدد غير قليل من العرب ببوادي مصر، وإلى استقرار جالية مصرية على طريق القوافل، كانت نواة لمدينة يثرب، كما يذكر مؤرخو العصور القديمة.

وظلت هذه الصلات التجارية متصلة بين مصر وبلاد العرب حتى أضعفها استيلاء الروم على مصر زمنًا، ثم عادت إلى مثل ما كانت عليه؛ ذلك أن العرب ظلوا يقومون برحلة الصيف إلى الشام، كان منهم من ينحدر إلى مصر عن طريق القوافل عند آيلة، وكان أكثرهم يسيرون إلى الشام، فإذا قضوا وطرًا من التجارة توجهوا إلى مصر، وذلك ما كان يصنعه تجار مكة كعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة وعثمان بن عفان١.

وكان العرب بحكم هذه الصلات يعرفون الكثير عن مصر. وقد تحدث القرآن الكريم عنها في مواضع كثيرة، فزود العرب المسلمين بها علمًا؛ بنهرها العظيم وأرضها المعطاء وزروعها الناضرة وخيراتها الوفيرة، في قصص إبراهيم وموسى وعيسى، فأثار في نفوسهم صورة مصر الطبيعية، وصورًا من تاريخها منذ أقدم العهود إلى عهدهم.

ولم تكن معرفة المسلمين بمصر مقصورة على ما كان من أمرها في العصور الأولى، بل كانوا يعرفون من أمرها في زمانهم أكثر مما يعرفونه من تاريخها؛ ذلك أن العرب كانوا يتابعون ما يجري بين فارس والروم بعناية بالغة، قد اتصل القتال بين الدولتين بمصر زمنًا غير قليل، ذلك أن الفرس دخلوها في سنة ٦١٦م وأقاموا بها تسع سنوات،


١ حسن المحاضرة ج٢ ص٤١.

<<  <   >  >>