للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

حتى أجلاهم هرقل عنها وعن الشام. وخلال هذه السنوات كان المسلمون يمدون أبصارهم إلى تلك الأرجاء، مؤمنين بأن الروم سيغلبون الفرس لا محالة كما أوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم. فلما تمت هزيمة الفرس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد هاجر إلى المدينة، وكانت سراياه تسير منها إلى ما حولها، فلما استتب الأمر بعث رسله إلى كسره وقيصر وملوك الحيرة وغسان وأمراء الجنوب من شبه الجزيرة، وإلى حاكم مصر يدعوهم جميعًا إلى الإسلام.

وقد يلفت النظر أن المقوقس حاكم مصر كان أجمل الملوك والأمراء ردًّا على رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وأكثرهم مجاملة له، فبعث مع حاطب بن أبي بلتعة رسول النبي صلى الله عليه وسلم إليه بكتاب يشير فيه إلى أنه يعتقد أن نبيًّا سيظهر، ولكنه ظن أنه سيظهر في الشام.

ويذكر أنه استقبل رسوله بما يجب له من إكرام، وأنه بعث معه بهدية جاريتين وبغلة بيضاء وحمار ومقدار من المال وبعض من خيرات مصر١.

وقد اصطفى محمد صلى الله عليه وسلم مارية القبطية إحدى الجاريتين لنفسه، فولدت له إبراهيم، فرفعها النبي صلى الله عليه وسلم إلى مقام زوجاته، وكان يقول: "استوصوا بالقبط خيرًا، فإن لهم ذمة ورحما".

وقد عرف المسلمون من أهل الشام ما يعرفونه عن مصر، وفضلًا عن معرفة عمرو الشخصية بما بها، كانت صورة مصر واضحة في ذهنه عن هذه السبل، عندما بدأ يفاتح الخليفة في فتحها ويزينه له ويغريه بشتى الطرق، ويضع أمثلة لخصبها ووفرة إنتاجها تحت عينيه، ويفيض فيما يظنه دافعًا له على الإذن بفتحها؛ فهي مركز خطير الأهمية بالنسبة لدولة الروم، وهي مخزن إمداد للميرة والمؤن والغلال والجند، وفتحها قوة للمسلمين وعون لهم؛ إذ هي أكثر البلاد أموالًا٢، وهو في نفس الوقت حرمان للروم من أهم الشرايين التي تبعث فيهم الحياة.

وظل عمرو يلح على أمير المؤمنين مغريًا إياه بأن يأذن له، عارضًا عليه ما آل إليه حال المصريين تحت حكم الروم من الظلم والعسف والاضطهاد، وأثر المبادئ الإسلامية التي بلغتهم عدالتها وسماحتها فيهم في تيسير الفتح.


١ صبح الأعشى ج٦، ص٤٦٧.
٢ ابن عبد الحكم ص٥١.

<<  <   >  >>