للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

إنَّ لغة الاتصال بالجماهير -في البلاغة الجديدة- إذن هي اللغة العملية الاجتماعية، لغة الفن الصحفي التي تمتاز بالشمول وكونها لغة طبيعية، في حين أنَّ لغة العلم ولغة الفنِّ من اللغات المصطنعة التي لا يمكن اكتسابها إلّا بعد سنواتٍ من المران والتدريب١.

ومن أجل ذلك يذهب طه حسين إلى أن ارتباط النثر العربي بوسيلة الاتصال الصحفي أدَّى إلى تطوره بسرعة أكثر من تطوّر الشعر، ذلك أن الناس "لا يصطنعون الشعر للإعراب عَمَّا يضطرب في أنفسهم من شئون الحياة اليومية, وهم لا يحررون الصحف شعرًا, ولا يكتبون فيما يريدون أن يكتبوا فيه حين يؤلفون الكتب شعرًا أيضًا، وإنما يصطنعون النثر في هذا العصر كما اصطنعوه في جميع العصور منذ تقدَّمت الحضارة لتأدية أغراضهم المختلفة"٢.

وتذهب هذه الرؤيا العملية لبلاغة الاتصال بالجماهير عند طه حسين، إلى ارتباط بالناس وتطوير الذوق العام، وعدم اعتزال الحياة الشعبية، والاقتراب من آلام الناس وآمالهم، ذلك أن كُتَّابَ المقال من جيل طه حسين "كانوا يعيشون مع الشعب, بل يعيشون بالشعب وللشعب. يعيشون لأنهم كانوا يعربون عن ذات نفسه, يصورون له آماله ليحرص عليها, ويجد في تحقيقها, ويفتحون له آفاقًا من الأمل ليسرع إليها ويمعن فيها, ويصورون آلامه ليبرأ منها ويضع عن نفسه أثقالها.. وأيسر القراءة فيما كانوا يكتبون تبيّن ذلك في غير لبسٍ ولا غموض, فهم الذين صوَّروا له الاستقلال وزينوه في قلبه, وهم الذين كرَّهوا إليه الاستبداد وأطمعوه في الحرية وأغروه بالإلحاح في طلبها, وهم الذين أعدوه للثورة وأسخطوه على حياة سيئة كان يحياها, وهيأوا ضميره ليسرع إلى الخير حين يدعى إليه, وينصرف عن الشر حين يُرَدُّ عنه, ويتقبَّل الإصلاح حين يعرض عليه. وهم قاوموا الاستبداد ولقوا في مقاومته ضروبًا من الأذى وفنونًا من النكر، وهم قوَّموا المعوَّجين من الحكام, وجدوا في صرف الشعب عنهم وتزهيده فيهم. فعلوا كل هذا وتقبَّل الشعب منهم ما فعلوا, واستجاب الشعب لهم حين دعوه واستمع لهم حين تحدثوا إليه. وآية ذلك أنه كان يقرأ لهم حين يكتبون, ويسمع لهم حين يخطبون ويتحدثون٣. ذلك أن ولاء هذه المدرسة -كما يقول طه حسين- يرتبط "بالبيئة المتحضِّرة التي يعش فيها الكاتب للجمهور وبالجمهور"٤ في نهاية الأمر.


١ الدكتور إبراهيم إمام: مرجع سبق ص٤٠.
٢ الدكتور طه حسين: مرجع سبق ص١٦٠.
٣ المرجع نفسه ص١٦١-١٦٣.
٤ الكاتب المصري, أكتوبر ١٩٤٥, مرجع سابق, ألوان ص١٧.

<<  <   >  >>