للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

شخص هذا الصبي ولم يكن شخص صالح يعنيني، وإنما كانت الأحداث التي حدثت للصبيين هي التي تعنيني. وأكبر الظن أن صالحًا هذا لم يوجد قط؛ لأنه يملأ المملكة المصرية من شرقها إلى غربها, ومن شمالها إلى جنوبها، يُوجَد في القرى, ويُوجَد في المدن, ويوجَدُ في كل مكان، يملأ مصر نعمة وخيرًا، وهو مع ذلك يشعر الناس بأن مصر هي بلد البؤس والشقاء"١.

فالتضحية بالتفاصيل، وعدم الاحتفاظ بالنسب الحقيقية في الشخصية الأصلية أمران مقصودان من أجل خلق النموذج المبسَّط في المقال القصصي عند طه حسين، وهذا النموذج يبين أكثر تبسيطًا حين يقابله طه حسين بنموذج مقارن يكشف عن أبعاده الواقعية.. "لم يوجد صالح قط لأنه يملأ المملكة المصرية، وإذا أسرف الشيء في الوجود فهو غير موجود، سواء رضيت الفلسفة عن هذا الكلام أم لم ترض. أما "أمين" فموجود من غير شك؛ لأننا نراه ولا نكاد نرى غيره؛ لأنه عظيم الخطر، فهو هذا الصبي الذي لا ينام جائعًا إذا أقبل الليل، ولا يغدو طاويًا على المدرسة أو على الكُتَّاب، ولا يطول انتظاره للغذاء إذا آن وقت الغذاء٢، وهذا "الصبي أو هذا الفتى الذي اتفقنا على أن اسمه أمين، موجود من غير شك؛ لأنه لا يملأ القرى ولا يملأ المدن، وإنما هو شخص ممتاز يمكن أن يحصى أمثاله وأترابه إحصاءً دقيقًا في كل قرية وفي كل مدينة، وهو من أجل ذلك موجود؛ لأن عدده محدوده، ولأننا نستطيع إحصاءه واستقاءه والدلالة عليه"٣.

ويكشف طه حسين عن غرضه من النمذجة في مقاله، لتقوم مقام التجربة الفردية أو الجماية حين يوضح منهج المقال القصصي: "وهنا يرتفع رأس القارئ وقد ظهرت على وجهه ابتسامة ساخرة, وبرقت عيناه بريق الانتصار والفوز وهو يسألني في صوت فاتر ساحر:

لقد أردت أن تتجنب الإطالة بالإجابة على أسئلتنا، فهل أنت الآن في الإطالة بهذا الكلام الكثير الذي لا يغني ولا يفيد! معذرة يا سيدي القارئ الكريم! بل إن هذا الكلام الكثير يغني كل الغناء ويفيد كل الفائدة؛ فأنت تلقى في كل يوم ألف صالح وصالح دون أن تحسَّ لواحد منهم خطرًا أو تعرف له وجودًا"١، إلى أن يقول: "فأيهما خير: أن ألفتك إلى صالح هذا البائس المسكين الذي ملأ مصر نعمة وخيرًا وملأت مصر حياته شقاء وبؤسًا، أم أن أحدثك عن أمين وموطنه وبيئته وأسرته لتستقيم القصة وتستوي رائعة بارعة ملائمة لأصول الفن التي رسمها النقاد؟ "٥.


١، ٢، ٣ المعذَّبون في الأرض ص٢٤، ٢٥.
٤، ٥ المرجع السابق ص٢٦.

<<  <   >  >>