للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ومن ذلك يبين أن النماذج البشرية تُقَدَّمُ في بضع خطوط أو لمسات شديدة الاختزال، تضحى بالتفاصيل الفنية؛ لأن العقلية البشرية تركن إلى الاستعانة بالرموز والأنماط والنماذج، فهي لا تتخذ سبيل التحليل الموضوعي والدراسة العلمية للوصول إلى الحقائق، ولذلك يصرِّح طه حسين بأنه يتوسَّل في هذه النمذجة بالتحدث إلى "قلب القارئ وما يضطرب فيه من عاطفة, وما يشيع فيه من شعور، على أن يتحدث إلى عقله وذوقه وما يثيران في نفسه من تهالكٍ على النقد وحبٍّ للاستطلاع"١، يقول:

"أوثر أن أتحدث إلى قلبك وأن ألفتك إلى صالح هذا الذي وجد وأسرف في الوجود، حتى اعتقدنا أو كدنا نعتقد أنه غير موجود, ومن يدري لعلي حينما لفتُّك إلى صالحٍ إنما ألفتك إلى نفسك"٢ ذلك أن "في حياة كل واحد منا نحن كثرة المصريين شيئًا من صالح، فصالح صورة البؤس والشقاء والحرمان, وما أقلَّ المصريين الذين لا يصورون بؤساء ولا شقاء ولا حرمانًا! وليس البؤس مقصورًا على الصفة التي تأتي من الفقر وما يستتبعه الفقر من الجوع الذي يمزِّقُ البطون, والإعدام الذي يمزِّقُ الثياب ويظهر من ثناياها الصدور والظهور والأكتاف، ولكن البؤس قد يتَّصِل بأشياء أخرى ليست جوعًا ولا إعدامًا ولكنها قد تكون شرًّا من الجوع والإعدام؛ لأنها تتصل بالنفوس والقلوب"٣.

وهكذا يتوسَّل طه حسين بالنمذجة الصحفية في تجسيد التجربة الفردية أو الجماعية تجسيدًا مقصودًا لأداء الوظائف الاجتماعية من خلال المقال القصصي.

ب- المواقف الصحفية في المقال القصصي:

على أن هذه النمذجة الصحفية، رغم تحريرها من السياق العام, فإنها تقوم على موقف صحفي من خلال الشكل القصصي للمقال، يصوِّر المشاكل المعاصرة المعاشة، والحياة اليومية المتجددة، ليربط بين النماذج التي ترزح تحت عبئه، وتتصارع فيه معًا. على أن الموقف لا يمكن أن ينفرد عن سواه، بل يتضامن مع القوى التي يتفاعل معها ويتحدَّد بها جهده على نحو ما يشعر هو بها، وكما يكتشف من ثنايها ذات نفسه، ويسير بها في حركة دائبة نحو المصير الفاصل بالنسبة له وبالنسبة للآخرين المشتركين معه في عالمه١.

فالموقف في المقال القصصي أداة وظيفية لتحقيق النمذجة الصحفية؛ لأنه حدث


١، ٢ المعذَّبون في الأرض ص٢٦، ٢٧.
٣ الدكتور محمد غنيمي هلال: مرجع سبق ص٢٦٧.

<<  <   >  >>