البحر، فلولا أني قرأت كتابيهما آخر هذا اليوم لأشفقت على نفسي أن أقضي صريع الأسى"١.
"١٤ نوفمبر ١٩١٥"
"في مثل هذا اليوم منذ سنة كاملة وصلت إلى مونبيلييه، بلد لم أعهده، ولم أكن أقدر أن أراه؛ على أني لم أكد أمضي فيها ساعات حتى احتجت إلى كتابٍ فذهبت إلى المكتبة، وأخذت ما أردت، ودفعت إلى البائعة نقدًا كان عليها أن ترد علي فضله، ولم يكن لديها هذا الفضل, فردَّت إليَّ ما دفعت إليها وهي تقول: ستؤدي إليَّ ذلك متى شئت, قلت: ولكنك لا تعرفينني يا سيدتي، ولم تريني قبل اليوم, فإني بمدينتك حديث العهد، قالت مستضحكة: لا عليك.
"ما أكثر ما زار الناس أوروبا، وما أكثر ما سعدوا بزيارتها وشَقُوا بفراقها، ولكن ما أسرع ما تَسَلَّوْا عنها وعادوا من حياتهم القديمة إلى ما كانوا فيه غير ضجرين، ولا والهين، ولكني أقسم ما تطاولت الأيام علي أوبتي إلّا أذكى تطاولها في نفسي اللوعة والحسرة، وضاعف في قلبي الهم والأسى.."إلخ.
وفي هذه اليوميات وغيرها نجد أن طه حسين يستخدم ضمير المتكلم الذي يتحول عنه في المقال الاعترافي في "الأيام" إلى ضمير الغائب؛ لأنه في المقال الاعترافي كان يواجه التقليديين بسبب الشعر الجاهلي، وكان من المنطقي أن تكون يومياته الأولى بداية لاستخدام ضمير المتكلم, ولكنه اضطر إلى استعمال ضمير الغائب للأسباب التي ترتبط بظروف كتابة مقالاته الاعترافية، كما تَقَدَّمَ, وهي الظروف التي توضح الطريق بين المواجهة الصحيحة للذات، وبين ما يفرضه الإطار الاجتماعي على التعبير من رمز أو ما يشبه الرمز.
على أن المواجهة الصريحة للذات في "اليوميات" الأولى بالسفور تُسْفِرُ عن سمة من سمات الأدب المصري في بيئة التكوين التي اتجهت إلى الرومانسية في كثير من الأحيان. ولكنها مع ذلك تنمُّ عن تفكير صاحبها ونظرته إلى بيئته
١ يصف الدكتور طه حسين هذه الفترة في مذكراته "الجزء الثالث من الأيام" وصفًا مسهبًا، مستخدمًا ضمير الغائب على عكس ما نجد في هذه اليوميات التي يستخدم فيها ضمير المتكلم مباشرة، يقول في صدد هذه اليومية: "وقد أقام صاحبنا في القاهرة قريبًا من ثلاثة أشهر, لا يعرف أنه شقي حياته كلها كما شقي فيها، ولا أنه سعد في حياته كلها كما سعد فيها, ولكن شقاءه كان طويلًا ملحًا, وسعادته كانت سريعة خاطفة. كان يشقى بالتبطُّل والفراغ والبؤس، وكان يسعد بذلك الصوت العذب الذي كان يناجيه بين حين وحين". إلخ. مذكرات طه حسين ص١٤٤-١٤٥.