للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

من المتحرجين، يغضبون للحياء والأخلاق، ويكتبون الفصول الطوال يَسْتَعْدُونَ بها الحكومة على حماية الحياء والأخلاق. وما أظن أن كُتَّابنا يعنون بغير هذين الأمرين من أمور الصيف خاصة. هم إذن لا يرفقون بأنفسهم, ولا يرفقون بقرائهم، بل يكتبون في الصيف كما كانوا يكتبون في الشتاء، فإن أخذوا بحظٍّ من هذا الرفق امتنعوا عن الكتابة امتناعًا، وصدوا عنها صدودًا، وأراحوا أنفسهم من الكدِّ, واستمتعوا بفترةٍ قصيرة من الهدوء الذي هم أهل له. ولكن الصحف لا بُدَّ من أن تظهر, ولا بُدَّ من أن تظهر ممتلئة الأنهار, وهنا يلقى أصحاب الصحف من صناعتهم الجهد كل الجهد، ويلقى القراء من صحفهم العناء كل العناء؛ أولئك يريدون أن يملأوا الصحف فلا يجدون ما يلأونها بها، وهؤلاء يريدون أن يقرأوا فلا يجدون ما يقرأون, وكذلك يصبح الصيف فصل الكساد الأدبي العام, ومع ذلك, فما أبعد الصيف عن أن يكون فصلًا من فصول الكساد لو عرفنا كيف نستقبله ونحتمله ونعاشره ونفارقه كما يفعل غيرنا من الناس"١. ويبين أثر الذوق الصحفي في مقال طه حسين من تحديده مهمته بإزاء ملاحظته تلك: "على أني مجتهد منذ الآن في أن أغير للقراء من أحاديث الصيف, لعلي أن أعينهم وأعين نفسي على احتماله حتى تنجلي عنا غمرته, ولهم عليّ ألَّا أحدثهم في موضوع واحد مرتين حتى تنقضي هذه الأشهر الطوال".

ويتضح أثر الذوق الصحفي من اختيار النبأ الذي يقوّمه في ضوء الحركة العامة للأحداث كما تقدَّم، ونكتفي في هذا الصدد بنموذج لمقال بعنوان: "عيد"٢ يستهله ببيت شعر للمتنبي:

عيد بأية حال عدت يا عيد ... بما مضى أم لأمر فيك تجديد

"هذا سؤال ألقاه المتنبي على أحد الأعياد في مصر منذ ألف عام، وأظن أن كل شاعر أو غير شاعر يستطيع أن يلقيه اليوم على عيد الاستقلال الذي تنعم به مصر السعيدة, ويستطيع أن يلقيه في نفس اللهجة البائسة التي اصطنعها المتنبي، فقد تغيرت أشياء كثيرة منذ ألف عام في مصر، ولكن شيئًا واحدًا لم يتغير, وهو أن الشعب المصري ما زال كما تصوِّره قصيدة المتنبي؛ راضيًا ناعمًا رضيّ البال, تختلف عليه الأعياد فيستقبلها مبتهجًا مغتبطًا؛ لأنها تحمل إليه من ألوان السعادة والبهجة والغبطة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر"٣. ثم يقول بعد هذا التمهيد:

"وقد أرادت دورة الفلك أن يستقبل المصريون اليوم عيدين في نهار


١ جريدة الجهاد في أول يوليو ١٩٣٥.
٢ بين ص٤٥.
٣ المرجع نفسه ص٥٢، ٥٣.

<<  <   >  >>