للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

اضطراب"١ ولكن هذا كله لا يصرف مقاله عن "حياة العقل والشعور, ولذة العقل والشعور, إلى الشهوات السياسية والأهواء السياسية"٢، فالعالم قد "اضطرب اضطرابًا لم يعرف التاريخ مثله، واستمرَّ هذا الاضطراب أعوامًا أزهقت فيها نفوس لا يكاد يبلغها الإحصاء، وجرت فيها الدماء أنهارًا دون أن تكون في هذا التعبير مبالغة أو غلوّ، وآمت فيها نساء, ويتَّمَت فيها أطفال, واختلَّ فيها التوازن الاقتصادي والخلقي والأدبي اختلالًا لا مثيل له٣، ويقتضي ذلك كله أن يتجه المقال إلى التحليل والتقويم لحياة العقل والشعور، نتيجة اشتداد الصلات بين الأمم٤، فحرصت "الحرص كله على أن يعرف بعضها بعضًا, ويفهم بعضها نفسيات بعضها الآخر. وما أحسب أن الأمم تعاونت على الحياة العقلية والشعورية في عصر من العصور كما تعاونت عليها أثناء الحرب الكبرى"٥.

وتأسيسًا على ذلك يقوم المقال التحليلي أو التقويمي عند طه حسين على الذوق والفهم معًا, "فقد تفهم أشياء كثيرة دون أن تذوقها"٦, فما "تظن أن الذين يذقون الموسيقى ويطربون لها يفهمونها جميعًا، بل نعتقد أن الكثرة المطلقة من الذين يسمعون الموسيقى فيطربون ويتأثرون وينتهي بهم ذلك إلى شيء يشبه الذهول، لا يفهمون الموسيقة كما يفهمها الموسيقيون الأخصائيون، فأنت ترى أن الذوق والفهم شيئان مختلفان"٧, ولكنهما حينما يجتمعان في التحليل الصحفي فإنهما يضمنان "الإصابة في الحكم"٨ أو التقويم.

كما أنَّ الفهم والذوق من خلال الاستقراء السليم يضمنان للمقال التحليلي في نهاية الأمر اتصالًا فعالًا بالجماهير؛ لأنه يتحدث إلى "الناس بلغتهم" حتى يفهمه الناس٩, فكأنَّ هذه اللغة الصحفية لا تنفصل عن منهج التفكير الذي يتجه بالمقال التحليل نحو الوضوح والتميُّز، الأمر الذي يجعل التلازم بين منهج التفكير وطريقة التعبير تلازمًا لا انفصام له، فجاءت هذه الطريقة متيِّمزةً بالمرونة وإيثار العبارات الواضحة العقلية، وهي لغة تختلف عن "لغة السياسيين التي تضطرب بين الوضوح أو الغموض"١٠ ذلك أن أسلوب المقال بهذا المعنى هو أسلوب التحليل الذي يقتضي الوضوح واستنكار الاضطراب أو الخلل في لغة السياسيين وغير السياسيين. ولعل مما يجدر بالذكر أن مسألة الأسلوب هذه عند طه حسين قد صارت من الحيوية في رؤياه بحيث أصبحت على مرِّ الأيام محور قضية التجديد١١.


١، ٢، ٣ حديث الأربعاء ج٣ ص٤٨.
٤، ٥ المرجع نفسه ص٤٨، ١٦.
٦، ٧، ٨ المرجع نفسه ص٢٦، ٢٧، ٣٢.
٩ المرجع نفسه ص٢٦، ٢٧، ٣٢.
١٠ المرجع نفسه ص١٣٨.
١١ مجلة الرسالة عام ٣٨.

<<  <   >  >>