للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لك الكرامة، ورزقك الاستقامة، ودفع عنك الندامة، كتبت إليَّ -أكرمك الله- تسألني عن الحسد ماهو؟ وأين هو؟ وما دلائله وأفعاله؟ وكيف تفرقت أموره وأحواله؟ وبِمَ يعرف ظاهره ومكنونه؟ ولِمَ صار في العلماء أكثر منه في الجهلاء؟ ولِمَ كثر في الأقرباء وقل منه في البعداء؟ وكيف دب في الصالحين أكثر منه في الفاسقين؟ وكيف خص به الجيران من جميع الأوطان"١.

افتتح الجاحظ رسالته بعناصر عدة، ناقشها عنصرا تلو عنصر، وعالج خلالها ظاهرة الحسد معالجة أدبية تنفر منه، وتقلل من قيمة الحاسدين، وما يترتب عليه من أضرار تقع بالحاسد والمجتمع. استمع إليه إذ يقول: "الحسد -أبقاك الله- داء ينهك الجسد، ويفسد الود، علاجه عسر، وصاحبه ضجر، وهو باب غامض، وأمر متعذر، فما ظهر منه فلا يُدارى، وما بطن منه فمداويه في عناء"٢.

ثم يقول: "وما أتى المحسود من حاسد إلا من قبل فضل الله تعالى إليه، ونعمته عليه، والحسد عقيد٣ الكفر، وحليف الباطل، وضد الحق، وحرب البيان ... فمنه تتولد العداوة، وهو سبب كل قطيعة، ومنهج كل وحشة، ومفرق كل جماعة، وقاطع كل رحم من الأقرباء، ومحدث التفرق بين القرناء، وملقح الشر بين الخلطاء، يكمن في الصدر كمون النار في الحجر. ولو لم يدخل -رحمك الله- على الحاسد، بعد تراكم الهموم على قلبه، واستكان للحزن في جوفه، وكثرة مضضه، ووسواس ضميره، وتنقيص عمره، وكدر نفسه، ونكد لذاذة معاشه إلا استغفاره لنعمة الله تعالى عنده، وسخطه على سيده بما أفاده الله عبده، وتمنيه عليه أن يرجع في هبته إياه، وألا يرزق أحدا سواه لكان عند ذوي العقول مرحوما، وكان عندهم في القياس مظلوما"٤.


١ راجع: مجموعة رسائل الجاحظ ج٢.
٢ راجع: المصدر السابق.
٣ العقيد: المعاهد.
٤ راجع: رسائل الأدباء جـ٢.

<<  <   >  >>