للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

رابعًا: الجاحظ: ١٥٠-٢٥٥هـ

هو أبو عثمان عمرو بن محبوب، لا يدانيه كاتب في سعة ثقافية ورشاقة أسلوبه وخفة روحه، وسلاسة بيانه، وتنوع معرفته، فقد أحسن فهم كل موضوع في عصره من سياسة واجتماع واقتصاد وحيوان ونبات وشعوب، وغير ذلك من الكتب التي تفوق الحصر كثرة وتنوعا، فخلف للعربية تراثا ضخما على مدى عمره الطويل. قال عنه أحد معاصريه من العلماء: "لم أرَ قط ولا سمعت من أحب الكتب والعلوم أكثر من الجاحظ، فإنه لم يقع بيده كتاب قط إلا استوفى قراءته كائنا ما كان".

رسائله وفصوله:

في آثار الجاحظ رسائل وفصول تعد نماذج عليا للمقال في الأدب العربي القديم، وتشبه المقالات في عصرنا الحديث؛ لأنها تتناول موضوعات فردية واجتماعية تناولا أدبيا. يعتمد الجاحظ فيها على إثارة العواطف، وتأجج المشاعر، وتتسم بتدفق الأفكار، وتلوين الصور، وتنويع موسيقى العبارات، مع الانطلاق في التعبير، والتحرر من القيود. تبدأ -غالبا- بتوجيه الحديث للمخاطب والدعاء له، ثم تدخل مباشرة في الموضوع الذي أنشئت له، بحيث لو حذف البدء منها بدت الرسالة مقالا سويا.

وصف المسعودي آثار الجاحظ الخالدة فقال: "كتب الجاحظ -مع انحرافه المشهور- تجلو صدأ الأذهان، وتكشف واضح البرهان؛ لأنه نظمها أحسن نظم، ووصفها أحسن وصف، وكساها من كلامه أجزل لفظ، وكان إذا تخوف ملل القارئ وسآمة السامع، خرج من الجد إلى الهزل، ومن حكمة بليغة إلى نادرة ظريفة"١.

وتعتبر فصول كتابه "البخلاء" مقالات تصويرية رائعة، تصور الحياة في البصرة وبغداد -خلال عصر الجاحظ- أحسن تصوير وأدقه، وتعرض نماذج بارعة من البخل لأشخاص عاصروه، أبدعتهم مخيلته على غير نسق موجود، وبأسلوب تفرد به، وأصبح علما عليه.

ومن أبرز الرسائل ذات الصلة بما نسميه المقال اليوم رسالة: "الحاسد والمحسود" التي بدأها الجاحظ بقوله: "وهب الله لك السلامة، وأدام


١ راجع: مروج الذهب جـ٢ ص٤٧١. طبعة كتاب التحرير ١٩٦٧.

<<  <   >  >>