للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والأمثلة الحية التي تضمنتها مقدمة الكتاب، نماذج طيبة للمقال النقدي. ومما جاء في المقدمة لكتاب ابن قتيبة "الشعر والشعراء":

"ولست أسلك فيما ذكرت من شعر كل شاعر، مختارا له سبيل من قلد، إذ استحسن استحسان غيره، ولا نظرت إلى المتقدم منهم بعين الجلالة لتقدمه، ولا لمتأخر بعين الاحتقار لتأخره، بل نظرت بعين العدل إلى الفريقين، وأعطيت كلا حظه، ووفرت عليه حقه، فإني رأيت من علمائنا من يستجيد الشعر السخيف لتقدم قائله١، ويضعه في متخيره، ويرذل الشعر الرصين، ولا عيب له عنده إلا أنه قيل في زمانه، أو أنه رأى قائله. ولم يقصر الله العلم والشعر والبلاغة على زمن دون زمن، ولا خص به قوما دون قوم، بل جعل ذلك مشتركا مقسوما بين عباده في كل دهر، وجعل كل قديم حديثا في عصره، وكل شريف خارجيا في أوله، فقد كان جرير والفرزدق والأخطل وأمثالهم يعدون محدثين، وكان أبو عمرو بن العلاء يقول:

لقد كثر هذا المحدث وحسن، حتى لقد هممت بروايته، ثم صار هؤلاء قدماء بعد العهد منهم، وكذلك يكون من بعدهم لمن بعدنا كالخريمي والعتابي والحسن بن هانئ وأشباههم. فكل من أتى بحسن من قول أو فعل ذكرناه له، وأثنينا به عليه. ولم يضعه عندنا تأخر قائله أو فاعله ولا حداثة سنه، كما أن الرديء إذا ورد علينا للمتقدم أو الشريف، لم يرفعه عندنا شرف صاحبه ولا تقدمه".

فقد كشف ابن قتيبة النقاب وأماط اللثام عن رأيه الشخصي، ونظرته الذاتية في الشعر والشعراء. ومثل هذا الرأي له قيمته ووزنه وثقله ودوره في المسائل الأدبية والفنية، ومن هنا اقترب في مقدمته من المقال النقدي، ودنا منه إلى حد كبير، لا ينكره إلا حاقد على الفكر العربي.


١ مثل ما روي عن ابن الأعرابي أنه كان يستحسن البيت أو الأبيات، فإذا قيل له: إنه لمحدث، رجع عن رأيه.

<<  <   >  >>